نكهة سورية مسيحية للمبدئية

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

هذا الجاني الذي اقتحم كنيسة مار إلياس في دمشق مساء الأحد الماضي، أثناء تأدية المصلين الصلاة، مُطْلقاً النار عشوائيّاً، ومفجِّراً نفسه بواسطة سترة ناسفة، ما أسفر عن مقتل 22 مصلِّياً، وإصابة العشرات بجراح بينهم أطفال وإشاعة الذعر في الكنيسة... هذا الجاني لو كان بدل الشحن التكفيري له قد وجد مَن يرشده إلى سواء السبيل، ويشجعه على أن يعرف ما التعايش الطوائفي، لما ارتكب هذا الإثم الذي مآله النار في الآخرة.

هذه الواقعة المؤلمة التي ذهب ضحيتها رجال ونساء مسنون، تجعلنا نستحضر من الذاكرة، ومن أوراق ووثائق ومحاضر جلسات ومؤلفات، كيف أن حقبة مضيئة من تاريخ سوريا الأربعينات والخمسينات كانت الطائفة المسيحية شريكة كل الطوائف، وتستوقفنا بالذات حالة، بل ظاهرة فارس الخوري المسيحي، الذي وُلد في بلدة الكفير اللبنانية، المتكئة على سفح جبل حرمون، المنتقل مع العائلة، بسبب ظروف الفتن والاحتراب، إلى سوريا، التي تشاء الأقدار -وكان قد بات جامعياً وحقوقياً وسياسياً- أن ينخرط في العمل السياسي زمن ازدهار التعدد الحزبي في سوريا، وبالذات «الكتلة الوطنية» و«الحزب الشيوعي»، وسجّل من المواقف التي تتسم بالتوازن، ما جعل المعادلات السياسية في رئاسات متنوعة المشارب تختاره لكي يترأس الحكومة. بل لعله أكثر السياسيين الذين ترأسوا حكومات في عهد الرئيس شكري القوتلي وعهد الرئيس هاشم الأتاسي، وهذا الترؤس للحكومة سبقه اختياره وزيراً للمعارف ثم للمالية. وأما المحطة اللافتة فتمثلت في أن أعضاء البرلمان السوري انتخبوه في ثلاثة مجالس نيابية رئيساً لهم.

لكن تبقى محطته الأممية ذات أهمية نوعية، فهو في مناسبة لمناقشة صيغة تقسيم فلسطين مع بعض التعديلات خلال انعقاد جلسة للهيئة العامة للأمم المتحدة (23-9-1947) قال ردّاً على المندوب الأميركي المؤيد للتقسيم: «اليهود لا علاقة لهم بفلسطين منذ عشرين قرناً، أما صلتهم العاطفية بها فيشاركهم فيها المسلمون والنصارى أيضاً، عدا ذلك فاليهود لم يُشكِّلوا دولتهم قديماً إلَّا في جزء من فلسطين، والحضارة التي ادّعوا أنها حضارتهم أخذوها عن جيرانهم الكنعانيين والفلسطينيين والمصريين والبابليين...».

وكان فارس الخوري، الذي ترأَّس حكومات سورية، وشغل مناصب وزارية عروبياً ووطنياً ولا طائفياً بامتياز -لعل البعض في لبنان يتأملون في العبر التي ما أكثرها وأقل الاعتبار تجاهها- تناول في كلمات ألقاها في إحدى مداولات أممية بين باريس ونيويورك موضوع حائط المبكى، وتستوقفنا في هذا الصدد العبارة التالية له «بينما كانت اعتداءات اليهود وخرْقهم للهدنة ومهاجمتهم منطقة النقب تمهيداً للاستيلاء عليها وتشريد نصف مليون فلسطيني تستوجب النظر في هذه الأمور، فإن ممثل اليهود أخذ يتكلّم عن حائط المبكى! هل احتل اليهود هذا الحائط وهل يحتله العرب الآن؟ إن هنالك أحجاراً قائمة وهي لا تزال هناك منذ العصور القديمة ولا يمسها أحد... فماذا يريدون؟ إنها في مدينة القدس القديمة، ولا تزال في مكانها هناك...».

وتناول فارس الخوري في الموضوع نفسه دعوى اليهود ضد الجيوش المصرية التي تجتاز حدود فلسطين، واصفة ذلك بأنه اعتداء، فقال «إن الجيوش المصرية تدخل فلسطين من أراضي مصر المتاخمة لأسباب تبرر دخولها، أما الجيوش اليهودية فمن أين أتت؟ لقد عبرت جيوش اليهود البحار والمحيطات والجبال، وتهافتت من كل بلاد العالم لتهاجم فلسطين ولتوطد أقدامها فيها، فهل يمكن اعتبار أولئك المعتدين الذين أتوا لغزو شعب مسالم في عقر داره أنهم يعملون بحق... بينما يُعتبر القادمون إلى إخوانهم ليوطدوا الأمن ويعيدوا اللاجئين إلى أوطانهم جماعة معتدين!».

وما هو أكثر لفْتاً للانتباه، أنه بعد انتهاء عضوية سوريا في مجلس الأمن الدولي (نهاية 1948) عاد فارس الخوري إلى دمشق، ومن دون أن يخطر في باله أنه سيلقى هذا الاستقبال الرسمي، الشعبي؛ حيث إن الجماهير زحفت صباح يوم الاثنين (10-1-1949) للمشاركة في استقباله، والذي بلغ مستوى غير مسبوق، إذ إن رئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم ونائبي رئيس مجلس النواب والوزراء والرؤساء السابقين ورموز أهل الفكر والثقافة والأدب، شاركوا في الاستقبال. ويروي الإعلامي محمد الفرحاني الذي استندْنا إلى كتاب ألَّفه عن فارس الخوري (إضافة إلى أوراق ذكريات جمعتْها الحفيدة الأديبة المتألقة كوليت خوري) أنه بعدما انتهى «الابن البار» من تحية مستقبليه، سأل ولده عن طربوشه، وكان قد أوصاه بأن يحضره معه إلى المطار في كتاب بعث به إليه، ولكن الابن نسي، فما كان من العلَّامة المسلم الشيخ بهجت البيطار إلَّا أن رفع عمامته بكلتا يديه، ووضعها على رأس فارس الخوري السوري المسيحي، ووسط التهليل والتصفيق ركب إلى يسار الرئيس القوتلي في الطريق إلى القصر الجمهوري، وبعد ذلك إلى منزله.

في أواخر الخمسينات أصيب هذا السياسي المسيحي الظاهرة في الحياة السياسية السورية - العربية - الأممية بتوّعك، انتهى بمضاعفات على أنواعها في الجسم، وتوفي عام 1962 عن 85 عاماً، وأقيمت له جنازة رئاسية، وتقدَّم المشيعين رئيسُ الجمهورية ناظم القدسي، والرئيس السلف شكري القوتلي.

لعل وعسى يُعيد رموز جماعات التطرف النظر في مفاهيم وشحن مذهبي، والتأمل بعقل منفتح في الظاهرة النموذج للمبدئية الوطنية والعروبية الثابتة وللتعايش الإسلامي - المسيحي في الوطن، الذي كانت عليه سوريا قبْل ثلاثة أرباع القرن، ترأَّس الحكومة فيها مرات عدة المسيحي فارس الخوري، فضلاً عن وقفات تتصل بالقضية الفلسطينية.


فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.

قراءة المزيد

هوامش روميّة فارسية!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

في التقاطة تاريخية لامعة، كتب أستاذ الفكر الإسلامي، وأستاذ الإسلاميات بصفة عامّة د. رضوان السّيد عن الصراع بين أميركا وإيران، ومع إسرائيل طبعاً، من خلال استحضار مرحلة تاريخية عتيقة... مرحلة الصراع بين الروم والفرس.

تحت عنوان «هل انتهت حرب فارس والروم؟» كانت مقالة الأستاذ رضوان، بهذه الجريدة، وعندما فرغ من سرد المواجهات بين إمبراطورية الفُرس والرومان «البيزنطيين» إبّان ظهور بواكير الإسلام، أشار للمنازلة الكُبرى التي شغلت كل أهل الشرق الأوسط وقتها، بين فارس والروم، لدرجة ذكرها في القرآن الكريم، وتخصيص سورة منه باسم «الروم».

بعيداً عن أسباب الصراع بين أكبر قوتين في الإقليم حينها، كان مُوجباً للملاحظة في هذا الصراع انقسام العرب بين معسكرين؛ معسكر الفرس، ومعسكر الروم، قبل الإسلام، تجسّد ذلك في مملكتي؛ المناذرة من آل نصر، والغساسنة من آل جفنة، المملكة الأولى في العراق، والثانية في الشام، العراقية موالية للفرس، والشامية موالية للروم، وصل هذا الانقسام إلى مكّة نفسها، التي كان فيها حزبان تجاه تلك الحرب الكبيرة بين الروم والفرس.

بعد كرّ السنين وفرّها، هل تغيّر هذا الانقسام العربي بين القوى الكبرى؟!

سأذهب أبعد من المشهدية التي رصدها د. رضوان، اليوم، وأستعيد انقسام العرب في العصر الحديث بين معسكر شرقي سوفياتي، وغربي أميركي، حتى لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم محاولة بعض العرب اليوم استعادة الحضن السوفياتي الأحمر، لكن بثوب روسي قومي، أما أميركا... فظلّت كما هي.

وحين تمدّد الفُرس الجُدد طيلة الـ46 عاماً الأخيرة، انقسم العربُ أيضاً، وكان العراق اليوم، كما كان أيام المناذرة، مع المعسكر الفارسي، والشام اليوم مع المعسكر الرومي الحديث، وبينهما وحولهما وخلفهما عربٌ كُثر يضعون قدماً هنا وأخرى هناك، رغبة في عدم الذوبان في مياه هذا أو ذاك.

جاء في «المقالة الرومية الفارسية» لرضوان السيّد قوله: «تضاءلت فارس، لكنها لم تسقط. أما الروم فلم يخسروا شيئاً، وهم شديدو الاعتزاز، وقد يكسبون إيران كما كسبوا سوريا! أمّا شرق أوسط السلام والازدهار فلا يزال بعيد المنال».

ونحن نطمع اليوم بفجرٍ عربي غامر ساطع يمسح الطاولة كلها من جديد، كما حصل في تلك اللحظة المُبهرة العربية في التاريخ، حين خرج من قلب جزيرة العرب وأطرافها عربٌ أصحاب رسالة وطموحٍ جريء وجديد، فغيّروا مسار التاريخ، وخلقوا له وجهاً حضارياً جديداً.

هل هي ضربة لازب أن على العرب ديمومة التحزّب لهذا أو ذاك؟!

لا.. ويبدو أن ثمّة استعادة، بطريقة تلائم اليوم، لهذه اللحظة العربية الاستثنائية، تشرق أنوارها من قلب جزيرة العرب، كما كان الأمر بالأمس.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

نعم شرق أوسط جديد

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي قضى أطول مدة فوق كرسي رئاسة الحكومة الإسرائيلية، عمل بقوة على إنهاء القضية الفلسطينية، وأعلن أن أرض فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر هي ملك للشعب اليهودي وحده، وأصدر قانوناً تأسيسياً يشرّع لذلك، وأن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية، هو مغادرة كل الشعب الفلسطيني لكل أرض إسرائيل. في الدورة الماضية للجمعية العامة للأمم المتحدة، عرض نتنياهو تصوراً لما سماه الشرق الأوسط الجديد، التي تمتلك فيه إسرائيل الهيمنة المطلقة. القوة العسكرية هي القلم الناري الذي يرسم خريطة الهيمنة الإسرائيلية.

اهتبل نتنياهو هجوم حركة «حماس» على إسرائيل، فشنَّ حرب إبادة عنيفة شاملة على غزة، وقتل القادة السياسيين والعسكريين للحركة، ثم وجَّه آلته العسكرية إلى لبنان، وقتل قيادة «حزب الله»، ودمَّر البنية السياسية والعسكرية للحزب. دفع نتنياهو بعد ذلك بقواته لاحتلال ما بقي من مرتفعات الجولان السورية، وبعد سقوط نظام بشار الأسد، شنَّ حرباً واسعة لتدمير السلاح السوري. تملك نتنياهو بعد كل ما حققه، زهوٌ نرجسيٌّ جنونيٌّ، وأعلنَ بلسانٍ يقذف رصاصَ الغرور، ولغةِ جسدٍ متعاليةٍ متحدية، أنَّه صنع شرقَ أوسط جديداً، تهيمن فيه إسرائيل وحدها، على كل ما فيه. منذ تأسيسها سنة 1948، لم تخض إسرائيل حرباً على أرضها، وبعد الضربات القوية الواسعة، التي قام بها الاستشهاديون الفلسطينيون، بنت إسرائيل الأسوارَ العالية، لتكون كل أرضها «الغيتو الجديد»، الذي يحميها من الهجمات الفدائية الفلسطينية. طرأت على المنطقة أحداث وحروب، رسَّخت الإحساس بالأمن المطلق في نفوس كلّ الإسرائيليين، فقد طُويت الصفحةُ العربية، التي كُتب فيها لسنوات سطور تحرير كامل فلسطين، وصمتتِ الأصواتُ العربية الهادرة، التي كانت ترتفع ليلاً ونهاراً داعية لتحرير كامل فلسطين المغتصبة من البحر إلى النهر.

حدث تاريخي هائل، هوى كمطرقة الفيلسوف الألماني المتمرد فريدريك نيتشه، على علامات مسار الزمان والمكان في المنطقة. الثورة الإيرانية سنة 1979 التي أسقطت نظام الشاه صديق إسرائيل الحميم. علاقة آية الله روح الله الخميني قائد الثورة الإيرانية، مع القضية الفلسطينية كان لها تاريخ طويل. عندما أعلن شاه إيران اعترافه بإسرائيل سنة 1960، وأقام علاقة دبلوماسية معها، هاجمه الخميني علناً، وكال له تهماً تخرجه من ملّة الإسلام. اعتقل الشاه الخميني، لكنَّه أُرغم على الإفراج عنه بضغط من المظاهرات الشعبية الواسعة، التي عمَّت البلاد مطالبة بالإفراج عنه. قام الرئيس جمال عبد الناصر بدعم الخميني، وأرسل له 150 ألف دولار. بعد أيام قليلة من انتصار الثورة الإيرانية، أمر الخميني بطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية من طهران، وسلم مقرّها لمنظمة التحرير الفلسطينية. عمَّت الفوضى البلاد بعد الثورة، وتفككت القدرات العسكرية وانهارت الإدارة وتشققت البنية التحتية. أغرى كل ذلك الرئيس العراقي صدام حسين بشن حرب واسعة على إيران التي لم تعد تمتلك مؤسسة عسكرية قادرة على الحرب.

استنجد قادة الثورة الإيرانية بصديقهم القديم العقيد معمر القذافي قائد ليبيا، فأرسل لهم كميات كبيرة من السلاح، وعلى رأسِها الصواريخ الطويلة المدى السوفياتية. لم يكن لدى إيران خبراء عسكريون، لهم القدرة على تشغيل تلك الصواريخ، فأرسلت طرابلس إلى طهران ضباطاً ليبيين قاموا بإطلاقها على بغداد. هذه البلاد (إيران) التي لم تكن تمتلك صواريخ، وليس لديها مَن يتقن تشغيلها، صارت اليوم تصنع الصواريخ القوية الذكية ذات الرؤوس العنقودية، وتدك كلَّ أرض إسرائيل، وتراوغ القدرات الدفاعية الإسرائيلية العالية التقنية. نتنياهو، اعتقد جازماً أنَّ الإجهازَ على القدرات العسكرية الإيرانية، ومنظومتها العلمية وبخاصة في المجال النووي، هو الضربة القاضية على خصمه الوحيد الباقي على حلبة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ووجود حليفه دونالد ترمب في البيت الأبيض، سيكون ذراعه الحديدية الضاربة. شن نتنياهو هجوماً جوياً واسعاً وقوياً على إيران؛ بذريعة تدمير برنامجها لصناعة قنابل نووية.

لكن نتنياهو لم يدر بخلده أنَّه قد سعى إلى حتفه بظلفه. أمطرت إيران إسرائيل بمئات الصواريخ، وحلَّ الدمار والموت وعمَّ طوفان الرعب في وجدان جميع الإسرائيليين. لقد غربت شمس التفوق العسكري الإسرائيلي المطلق في المنطقة، وحرقت صواريخ إيران حلم نتنياهو، بالهيمنة على كامل الشرق الأوسط الجديد، الذي رسم خريطته بقلم زهوه النرجسي.

نعم، نحن نعيش اليوم شرق أوسط جديداً، لا تتفرد فيه إسرائيل بالهيمنة المطلقة، بقوة السلاح والدعم الأميركي غير المحدود. الخليج العربي يشهد اليوم نهوضاً اقتصادياً وعلمياً، ودولة باكستان الإسلامية، برزت قوةً عسكريةً وعلميةً فاعلة، وجيل عربي وإسلامي جديد، مسكون بالقضية الفلسطينية. ديڤيد بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل، كان يكرر في خطاباته القول: «إن العرب لن ينسوا أبداً هذه الأرض، التي يؤمنون أنها بلادهم المقدسة، وأننا أخذناها منهم بقوة السلاح، وعلينا أن نطوّر قدرتنا العسكرية بلا كلل»، لقد فشل مشروع شرق أوسط نتنياهو الجديد، وبزغ لون زمن جديد في المنطقة.


عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية - الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.

قراءة المزيد

ثمانون هذه الأمم: العصابات (حلقة 3 من 5)

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

في 1945، بينما كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال مستعرة، اجتمع مندوبون من 50 دولة في سان فرنسيسكو، لحضور مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة. وكان هدفهم الأساسي، وفقاً للخطاب الملهم لميثاق الأمم المتحدة، هو «إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب التي جلبت مرتين في حياتنا آلاماً لا توصف للبشرية». تم اعتماد الميثاق بالإجماع وتوقيعه في 25 يونيو (حزيران).

كانت الآمال كبيرة في هذه المنظمة الجديدة، خاصة من جانب الولايات المتحدة، التي كانت دائماً أكبر داعميها. فقد ادعى كوردل هول، وزير الخارجية، أن الأمم المتحدة تمتلك مفتاح «تحقيق أسمى تطلعات البشرية واستمرار حضارتنا».

لكن كانت هناك أيضاً أصوات معارضة كثيرة. فقد أنشئت المنظمة على أساس العضوية الدورية في هيئتها التنفيذية، مجلس الأمن. لكن الدول الخمس الأقوى في ذلك الوقت، الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا، وفرنسا، والصين، لم تُمنح مقعداً دائماً فحسب، بل أيضاً حق النقض (الفيتو) على أي اقتراح لا توافق عليه.

وجد العديد من الدول الصغيرة صعوبة في قبول ذلك. وكما أشار وزير الخارجية المصري، فإن حق النقض سمح للدول الخمس الكبرى بأن «تكون قاضياً وجلاداً في أي مسألة تمس مصالحها». وأشار المندوب الكولومبي ألبرتو ليراس كامارغو، إلى أنه في حين أن الدول الخمس الكبرى هي الوحيدة التي تتمتع بالقوة الكافية لفرض النظام الجديد، فإن «القوى العظمى هي وحدها التي يمكنها تهديد سلام وأمن العالم».

شكك بعض المعلقين في المفهوم نفسه الذي قامت عليه الأمم المتحدة. في عام 1946، نشر المفكر المجري الأميركي إيمري ريفز، نقداً لاذعاً للمنظمة أصبح من أكثر الكتب مبيعاً في العالم. وجادل في كتابه «تشريح السلام» بأن القومية هي السبب الجذري لجميع الحروب: فمن خلال جعل المنظمة مسؤولة أمام دول العالم، بدلاً من شعوبها مباشرة، فإن الأمم المتحدة تقع ببساطة في الفخ نفسه مرة أخرى. لم يكن ريفز متفاجئاً على الإطلاق من الدول الخمس الكبرى التي تمكنت من إجبار الدول الأخرى على منحها امتيازات خاصة.

في السنوات التالية، ثبتت صحة جميع الشكوك التي سادت عام 1945. فقد استخدمت معظم الدول الخمس الكبرى، حق النقض لحماية نفسها، وشن حروبها الخاصة، مما أثار غضب الغالبية العظمى من أعضاء الأمم المتحدة العاجزين. غزت بريطانيا وفرنسا قناة السويس عام 1956، وغزا الاتحاد السوفياتي المجر، وتشيكوسلوفاكيا، وأفغانستان (1956 و1968 و1979). وشنت الولايات المتحدة سلسلة من المغامرات في أميركا الوسطى في الثمانينات. واستمر هذا النمط في القرن الحادي والعشرين مع الغزو الأميركي للعراق (2003)، والغزو الروسي لجورجيا، والحرب الروسية الحالية في أوكرانيا. وجميعها تمت دون موافقة مجلس الأمن. بذلك أثبتت الدول الخمس الكبرى أنها حرة في خوض الحروب متى شاءت.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

صحة العالم من صحة «هرمز» و«باب المندب»!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

في خضم التوترات العسكرية المتصاعدة في الشرق الأوسط، برزت مخاوف جدية من لجوء إيران إلى استخدام أوراق ضغط حساسة، من أبرزها التهديد بإغلاق مضيقَي هرمز وباب المندب، وهما من أهم المعابر البحرية لنقل النفط والغاز إلى العالم. وبينما انشغلت القوى الكبرى بإدارة التصعيد، بدأ اقتصاديون ودبلوماسيون كبار دقَّ ناقوس الخطر من سيناريوهات قد تُفجِّر أزمة طاقة عالمية غير مسبوقة.

ووفق مصدر اقتصادي غربي مطَّلع، فإن إغلاق أيٍّ من المضيقين –ولو مؤقتاً– سيكون له تأثير كارثي على الاقتصاد العالمي، وخصوصاً على أوروبا التي تعتمد بنسبة كبيرة على واردات الطاقة الآتية من الخليج.

مضيق هرمز هو الممر البحري الأضيق والأكثر حساسية في العالم. يمر عبره يومياً نحو 20 مليون برميل من النفط الخام، أي ما يعادل ثلث صادرات النفط العالمية المنقولة بحراً. ويشير المصدر إلى أن أي تعطيل -سواء عبر الألغام البحرية أو الهجمات أو حتى التهديد- قد يؤدي إلى قفز أسعار النفط إلى أكثر من 150 دولاراً للبرميل خلال أيام. ويضيف: «أوروبا ستدفع الثمن الأكبر؛ لأن البدائل محدودة، والأسواق العالمية لا تتحمل صدمة جديدة بعد تداعيات الحرب في أوكرانيا والتضخم والانكماش».

أما مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن، فهو قناة حيوية تمر منها شحنات ضخمة من النفط والغاز والسلع المتوجهة إلى قناة السويس. ويقول المصدر إن «أي إغلاق لباب المندب سيعني عملياً قطع الشريان الجنوبي عن أوروبا، وإعادة رسم خطوط التجارة البحرية، وهو أمر مكلف ومعقّد». ووفق بيانات بحرية دولية، فإن أكثر من 6 ملايين برميل من النفط تمر عبر باب المندب يومياً، إضافة إلى بضائع بمليارات الدولارات. وأي تعطيل سيؤدي إلى تأخير الشحنات، وزيادة التكاليف، ورفع الأسعار على المستهلكين الأوروبيين.

من المؤكد أن أوروبا في قلب العاصفة؛ إذ تعتمد دول الاتحاد الأوروبي على واردات الطاقة من الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تقليص الاعتماد على الغاز الروسي. ولذلك، فإن أي أزمة في المضيقَين ستعني ارتفاعاً حاداً في فواتير الطاقة، وعودة شبح الركود التضخمي.

ويقول المصدر الاقتصادي: «الأسواق الأوروبية هشة للغاية. لم تتعافَ بعد من آثار وباء (كوفيد) والحرب في أوكرانيا، ولا تتحمل صدمة نفطية جديدة. والحكومات ستكون مضطرة للتدخل، ما سيزيد عجز الميزانيات، وقد يدفع بعض الاقتصادات إلى الركود».

وأشارت تقارير أوروبية إلى أن المفوضية الأوروبية بدأت بالفعل مناقشات داخلية طارئة تشمل تفعيل المخزون الاستراتيجي، وتحويل بعض الطلب إلى الغاز الأميركي، ولكن المصدر يحذر من أن هذه الإجراءات «لن تكون كافية؛ بل ستؤخر الأزمة فقط».

وفي مواجهة اختناق محتمل للإمدادات، تسعى الدول الأوروبية إلى تفعيل بدائل، أبرزها الغاز الأميركي المُسال والجزائري. فالولايات المتحدة تملك قدرة تصديرية كبيرة من الغاز المسال، وأظهرت فاعليتها خلال أزمة أوكرانيا، عندما تم تعويض جزء من الغاز الروسي بإمدادات أميركية.

أما الجزائر، فهي من أكبر مزوّدي أوروبا بالغاز عبر أنابيب إلى إيطاليا وإسبانيا، وتلعب دوراً استراتيجياً في استقرار الإمدادات إلى جنوب القارة. إلا أن المصدر يُحذر من أن «القدرات الحالية محدودة، ولن تعوّض الكميات المفقودة في حال إغلاق هرمز أو باب المندب». ويضيف أن «الغاز الأميركي قد يسد جزءاً من الفجوة، ولكنه يحتاج إلى عقود نقل وبنية تحتية، وهو ما لا تملكه كل الدول الأوروبية، في حين تحتاج الجزائر إلى استثمارات إضافية». ومع ذلك، تظل هذه البدائل خط دفاع مؤقت، يُمكن أن يُخفف من حدة الأزمة.

من جهة أخرى، تبدو واشنطن أكثر حزماً في التعامل مع تهديدات إمدادات الطاقة. وحسب المصدر الاقتصادي، فإن الولايات المتحدة تعدُّ أي محاولة لإغلاق المضيقين تهديداً مباشراً للأمن العالمي، وقد ترد عليه عسكرياً. ويضيف: «الإدارة الأميركية راقبت نيات طهران، ونسقت مع الحلفاء لنشر قوات بحرية في البحرين وخليج عدن. وتدرك واشنطن أن تعطيل الملاحة سيؤثر على أوروبا وسلاسل التوريد العالمية».

وقد تُفعّل واشنطن آليات دفاع جماعي عبر حلف «الناتو»، وتضغط دبلوماسياً على الصين وروسيا لثني طهران عن أي خطوات «غير محسوبة».

الصين -بدورها- لم تكن بمنأى عن الأزمة. فهي أكبر مستورد للطاقة في العالم، وتعتمد على المضيقين لنقل النفط من الخليج إلى موانيها. ورغم موقفها السياسي المتحفظ، فإن بكين تملك أدوات ضغط حقيقية على طهران. ويضيف الخبير الاقتصادي: «إذا شعرت الصين بأن إمداداتها مهددة، فقد تتدخل دبلوماسياً وربما اقتصادياً. الصين تشتري 40 في المائة من صادرات إيران النفطية، وتوفر لها شرايين مالية غير رسمية. بإمكانها التلميح بسحب هذه الامتيازات للضغط». ويرجَّح أن تحاول بكين لعب دور الوسيط، للحفاظ على استقرار الإمدادات، وتقديم نفسها بوصفها قوة مسؤولة في النظام العالمي.

لو تفاقمت الأزمة، لكانت الأسواق المالية تأثرت عالمياً؛ ليس في قطاع الطاقة فقط؛ بل في قطاعات مثل النقل والصناعة والغذاء. فارتفاع أسعار النفط والغاز سيرفع تلقائياً تكاليف الإنتاج والنقل، ما سينعكس على أسعار السلع، ويُعمّق أزمة المعيشة.

وتقول وكالة «بلومبرغ» إن المستثمرين كانوا قد بدأوا تحويل أموالهم إلى الذهب والملاذات الآمنة، قبل الإعلان عن وقف النار بين إسرائيل وإيران.

ويختم مُحَدِّثي الاقتصادي الغربي بالقول: «إن العالم كان أمام لحظة حرجة. أزمة الطاقة هذه لا تشبه السبعينات؛ بل قد تكون أعقد؛ لأن العالم اليوم أكثر ترابطاً وهشاشة. وإذا لم تُحتوَ التهديدات سريعاً، فسنواجه موجة تضخمية غير مسبوقة منذ عقود».


هدى الحسيني
صحافية وكاتبة لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار»،«النهار» العربي والدولي،«الوطن العربي»،«الحوادث» و«الصياد». حاورت عدداً من الزعماء منهم: الخميني، الملك الحسن الثاني، الملك حسين والرؤساء أنور السادات، حسني مبارك، صدام حسين، جعفر نميري، ياسر عرفات وعيدي أمين. غطت حرب افغانستان، الثورة الايرانية، الحرب الليبية - التشادية، عملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى.

قراءة المزيد

بعد وقف الحرب… إلى أين ستتّجه إيران؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

أعلنَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مساءَ الاثنين الماضي، وقفاً للعملياتِ العسكرية بينَ إسرائيلَ وإيران، بعد 12 يوماً من التَّصعيد الحاد بين الأطراف المتصارعة، والذي بلغَ ذروتَه لدى استهدافِ القوات الأميركية ثلاثةَ مواقعَ نووية إيرانية حسَّاسة هي: «فوردو» و«نطنز» و«أصفهان»، بضرباتٍ دقيقة، وهذه المواقعُ الثلاثة تُعَدُّ أمَّهاتِ البرنامجِ النووي الإيرانيّ.

وفي خضمّ التحليلاتِ المتزاحمة بدا هذا الإعلانُ لحظةً فارقةً تستدعي التَّوقفَ والتأمل، ليسَ فقط بوصفه خطوةً لوقفِ التَّصعيد، بل لفهمِ موقعِ إيرانَ في المشهدِ الإقليميّ والدوليّ المعقد.

منذ ثورة الخميني عام 1979، قدَّمت إيران نفسَها على أنَّها مركزٌ لقوى المقاومةِ في الشَّرق الأوسط، وبنت سرديةً سياسية قائمة على الصمود في وجه الضغوطِ الخارجية، ودعمتْ الحركاتِ المناهضةَ للغرب، بدأت باحتجاز 52 موظفاً في السّفارة الأميركية بطهران لمدة 444 يوماً، إلى استهدافٍ مباشرٍ للمصالح الأميركية في المنطقة، مطلقةً شعاراتٍ معاديةً للولايات المتحدة واصفة إياها بـ«الشيطان الأكبر»، وهذا المسارُ منحَ طهرانَ نفوذاً لا يُنكر، في بعض الأوساطِ الراديكالية في المنطقة، لكنَّه في المقابل جعلَها في مواجهةٍ مستمرة مع محيطِها الإقليميّ والعالمي، وأدخلَها في عزلةٍ متنامية، دفع ثمنَها الأكبرَ المواطنُ الإيرانيّ.

الكاتبُ الأميركي توماس فريدمان كتب في «نيويورك تايمز» قبل يومين، أنَّ إيران اختارت منذ البداية أن تكونَ في صف «قوى الممانعة أو المقاومة» التي تعتمدُ على الصّراع، في مقابلِ قوى إقليميةٍ أخرى راهنتْ على التَّنميةِ والتكاملِ والازدهار، ورغم أنَّ طهرانَ حقَّقت بعضَ التَّقدم العسكري، فإنَّ فريدمان يرى أنَّ ما خسرته علَى المستوياتِ الاقتصاديةِ والاجتماعية والدبلوماسية يفوقُ بكثيرٍ ما كسبته، ففي الوقتِ الذي تراكمتْ فيه الأعباءُ على الدَّاخل الإيراني، كانت دولُ الاعتدال في الجوار تحقق مؤشراتِ نموٍّ وتنمية، وتعزّز حضورَها الدبلوماسيَّ كقوى مؤثرة في المشهدِ الدولي.

ويأتي تمسُّكُ إيرانَ ببرنامجها النووي بوصفه أحد أبرز تجلياتِ هذا الاتجاه الذي اختارته إيران، فالبرنامج لم يعد مجردَ محلِّ شكوك دولية، بل تحوَّل إلى مصدرِ تهديدٍ حقيقي لإيرانَ نفسها، قبل أن يكون تهديداً لجيرانِها، فالعالمُ اليوم لم يعد ينظر إلى القدراتِ النووية بعين الإعجابِ أو الرَّدع، بل بعينِ الرّيبة، خصوصاً حين ترتبطُ بعقيدة سياسيةٍ غير واضحة، وبعلاقاتٍ إقليمية متوترة. إذ كيفَ يمكن لدولة أن تطالب بثقة المجتمع الدولي، وهي ترفعُ منسوبَ الخطرِ إلى هذا الحدّ؟ وكيفَ يمكن الاطمئنانُ إليها، وهي تعتمدُ منطقَ: أنَّ الضامنَ الوحيدَ للبقاء هو اللهاث وراء أدوات الدَّمار؟

الحقيقة أنَّ الإشكالَ لا يكمن في البرنامج النووي ذاتِه، بقدر ما يكمن في العقلية التي تقفُ خلفَه، عقلية تراكم القوة لا التنمية، وتبحث عن الردع أكثر ممَّا تبحث عن التكامل، وتخشَى الداخلَ أكثر مما تخشَى الخصوم، وما لم يحدثْ تحوُّلٌ حقيقيٌّ في هذه العقلية، فلن يكونَ هناك فرقٌ كبيرٌ بين وقفِ حربٍ أو اندلاع أخرى، لأنَّ جوهرَ التفكير السّياسي سيبقى كما هو.

اليوم، لم تعد التنميةُ خياراً ثانوياً، بل أصبحتِ المعيارَ الأهمَّ للشرعية السياسية، والبوصلة التي تقيس بها الدولُ قدرتَها على التَّقدم والاستقرار، ولدى إيران من المقوّماتِ ما يكفي لأن تكونَ قوةً اقتصاديةً إقليمية مؤثرة، إن اختارت هذا الطريق، لكن ذلك لن يتحقق من دون مراجعةٍ داخلية عميقة، ومن دون إعادةِ تعريفٍ لمعنى «القوة» في خطابها السياسي.

وقفُ الحرب، كمَا أعلنه ترمب يومَ الاثنين الماضي، ليس انتصاراً لأي طرفٍ، بقدرِ ما هو لحظة اختبار، فإمَّا أن تستثمرَها طهران كبدايةٍ لتحول هادئ نحو الداخل، وإما أن تظلَّ عالقةً في دوائر التصعيد والتراجع، والانكفاء والتوجّس من كلّ ما هو خارجيٌّ وداخليٌّ على حدّ سواء، وأمامَ هذا المفترق، لا يقاس وزنُ الدولِ بعدد الصواريخ الباليستيةِ، بل بمدَى امتلاكِها الرؤية، وقدرتِها على صناعة الأمل.

صحيح أنَّ الثورةَ الإيرانية صمدت 46 عاماً، لكن ما شهدته المنطقة في العامين الماضيين من ضرباتٍ مزلزلة لمشاريعها التوسعية أظهر أنَّ هذا الصمودَ بدأ يتحوَّل إلى عبء، وما تبقَّى من الثورة، يؤمل أن يُترجمَ إلى مشروع بناء، لا إلى مزيدٍ من الحصار والتوجّس، فالدّولُ اليوم تُقاس بما تحقّقه لشعوبِها... لا بمَا تخيفُ به الآخرين.


زيد بن كمي
نائب المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث». تولى منصب نائب رئيس تحرير «الشرق الأوسط» التي عمل بها لنحو 20 عاماً. وعمل محاضراً غير متفرغ للإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. وهو حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة الملك سعود والماجستير من جامعة كيل البريطانية.

قراءة المزيد

بعد وقف الحرب… إلى أين ستتّجه إيران؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

أعلنَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مساءَ الاثنين الماضي، وقفاً للعملياتِ العسكرية بينَ إسرائيلَ وإيران، بعد 12 يوماً من التَّصعيد الحاد بين الأطراف المتصارعة، والذي بلغَ ذروتَه لدى استهدافِ القوات الأميركية ثلاثةَ مواقعَ نووية إيرانية حسَّاسة هي: «فوردو» و«نطنز» و«أصفهان»، بضرباتٍ دقيقة، وهذه المواقعُ الثلاثة تُعَدُّ أمَّهاتِ البرنامجِ النووي الإيرانيّ.

وفي خضمّ التحليلاتِ المتزاحمة بدا هذا الإعلانُ لحظةً فارقةً تستدعي التَّوقفَ والتأمل، ليسَ فقط بوصفه خطوةً لوقفِ التَّصعيد، بل لفهمِ موقعِ إيرانَ في المشهدِ الإقليميّ والدوليّ المعقد.

منذ ثورة الخميني عام 1979، قدَّمت إيران نفسَها على أنَّها مركزٌ لقوى المقاومةِ في الشَّرق الأوسط، وبنت سرديةً سياسية قائمة على الصمود في وجه الضغوطِ الخارجية، ودعمتْ الحركاتِ المناهضةَ للغرب، بدأت باحتجاز 52 موظفاً في السّفارة الأميركية بطهران لمدة 444 يوماً، إلى استهدافٍ مباشرٍ للمصالح الأميركية في المنطقة، مطلقةً شعاراتٍ معاديةً للولايات المتحدة واصفة إياها بـ«الشيطان الأكبر»، وهذا المسارُ منحَ طهرانَ نفوذاً لا يُنكر، في بعض الأوساطِ الراديكالية في المنطقة، لكنَّه في المقابل جعلَها في مواجهةٍ مستمرة مع محيطِها الإقليميّ والعالمي، وأدخلَها في عزلةٍ متنامية، دفع ثمنَها الأكبرَ المواطنُ الإيرانيّ.

الكاتبُ الأميركي توماس فريدمان كتب في «نيويورك تايمز» قبل يومين، أنَّ إيران اختارت منذ البداية أن تكونَ في صف «قوى الممانعة أو المقاومة» التي تعتمدُ على الصّراع، في مقابلِ قوى إقليميةٍ أخرى راهنتْ على التَّنميةِ والتكاملِ والازدهار، ورغم أنَّ طهرانَ حقَّقت بعضَ التَّقدم العسكري، فإنَّ فريدمان يرى أنَّ ما خسرته علَى المستوياتِ الاقتصاديةِ والاجتماعية والدبلوماسية يفوقُ بكثيرٍ ما كسبته، ففي الوقتِ الذي تراكمتْ فيه الأعباءُ على الدَّاخل الإيراني، كانت دولُ الاعتدال في الجوار تحقق مؤشراتِ نموٍّ وتنمية، وتعزّز حضورَها الدبلوماسيَّ كقوى مؤثرة في المشهدِ الدولي.

ويأتي تمسُّكُ إيرانَ ببرنامجها النووي بوصفه أحد أبرز تجلياتِ هذا الاتجاه الذي اختارته إيران، فالبرنامج لم يعد مجردَ محلِّ شكوك دولية، بل تحوَّل إلى مصدرِ تهديدٍ حقيقي لإيرانَ نفسها، قبل أن يكون تهديداً لجيرانِها، فالعالمُ اليوم لم يعد ينظر إلى القدراتِ النووية بعين الإعجابِ أو الرَّدع، بل بعينِ الرّيبة، خصوصاً حين ترتبطُ بعقيدة سياسيةٍ غير واضحة، وبعلاقاتٍ إقليمية متوترة. إذ كيفَ يمكن لدولة أن تطالب بثقة المجتمع الدولي، وهي ترفعُ منسوبَ الخطرِ إلى هذا الحدّ؟ وكيفَ يمكن الاطمئنانُ إليها، وهي تعتمدُ منطقَ: أنَّ الضامنَ الوحيدَ للبقاء هو اللهاث وراء أدوات الدَّمار؟

الحقيقة أنَّ الإشكالَ لا يكمن في البرنامج النووي ذاتِه، بقدر ما يكمن في العقلية التي تقفُ خلفَه، عقلية تراكم القوة لا التنمية، وتبحث عن الردع أكثر ممَّا تبحث عن التكامل، وتخشَى الداخلَ أكثر مما تخشَى الخصوم، وما لم يحدثْ تحوُّلٌ حقيقيٌّ في هذه العقلية، فلن يكونَ هناك فرقٌ كبيرٌ بين وقفِ حربٍ أو اندلاع أخرى، لأنَّ جوهرَ التفكير السّياسي سيبقى كما هو.

اليوم، لم تعد التنميةُ خياراً ثانوياً، بل أصبحتِ المعيارَ الأهمَّ للشرعية السياسية، والبوصلة التي تقيس بها الدولُ قدرتَها على التَّقدم والاستقرار، ولدى إيران من المقوّماتِ ما يكفي لأن تكونَ قوةً اقتصاديةً إقليمية مؤثرة، إن اختارت هذا الطريق، لكن ذلك لن يتحقق من دون مراجعةٍ داخلية عميقة، ومن دون إعادةِ تعريفٍ لمعنى «القوة» في خطابها السياسي.

وقفُ الحرب، كمَا أعلنه ترمب يومَ الاثنين الماضي، ليس انتصاراً لأي طرفٍ، بقدرِ ما هو لحظة اختبار، فإمَّا أن تستثمرَها طهران كبدايةٍ لتحول هادئ نحو الداخل، وإما أن تظلَّ عالقةً في دوائر التصعيد والتراجع، والانكفاء والتوجّس من كلّ ما هو خارجيٌّ وداخليٌّ على حدّ سواء، وأمامَ هذا المفترق، لا يقاس وزنُ الدولِ بعدد الصواريخ الباليستيةِ، بل بمدَى امتلاكِها الرؤية، وقدرتِها على صناعة الأمل.

صحيح أنَّ الثورةَ الإيرانية صمدت 46 عاماً، لكن ما شهدته المنطقة في العامين الماضيين من ضرباتٍ مزلزلة لمشاريعها التوسعية أظهر أنَّ هذا الصمودَ بدأ يتحوَّل إلى عبء، وما تبقَّى من الثورة، يؤمل أن يُترجمَ إلى مشروع بناء، لا إلى مزيدٍ من الحصار والتوجّس، فالدّولُ اليوم تُقاس بما تحقّقه لشعوبِها... لا بمَا تخيفُ به الآخرين.


زيد بن كمي
نائب المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث». تولى منصب نائب رئيس تحرير «الشرق الأوسط» التي عمل بها لنحو 20 عاماً. وعمل محاضراً غير متفرغ للإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. وهو حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة الملك سعود والماجستير من جامعة كيل البريطانية.

قراءة المزيد

عام جديد

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

التهاني والتبريكات للأمة الإسلامية ولكافة بني البشر بهذا العام الجديد الذي أشرقت شمسه علينا.

وأخص أخواتي وإخوتي في المملكة العربية السعودية بهذه التهاني وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة الإيمان به وبرسوله (صلى الله عليه وسلم).

إن شمسنا تسطع في عنان سمائنا بنور المحبة والسلام والوئام مفعمة بشعاع ما وعد به مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز عندما بُويع ملكاً حيث قال: «والله أسأل أن يوفقني لخدمة شعبنا العزيز وتحقيق آماله، وأن يحفظ لبلادنا وأمتنا الأمن والاستقرار وأن يحميها من كل سوء ومكروه». كما أضاف، أيده الله: «إن إمتنا العربية والإسلامية هي أحوج ما تكون اليوم إلى وحدتها وتضامنها، وسنواصل في هذه البلاد - التي شرفها الله بأن اختارها منطلقاً لرسالته وقبلة للمسلمين، مسيرتنا في الأخذ بكل ما من شأنه وحدة الصف وجمع الكلمة والدفاع عن قضايا أمتنا، مهتدين بتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي ارتضاه المولى لنا، وهو دين السلام والرحمة والوسطية والاعتدال». ولقد صدق وعده وعمل به.

فهذا ولي عهدنا الأمير محمد بن سلمان ينفذ ما وعده لنا مليكنا لخدمة الشعب وضمان الأمن والاستقرار، ويجمع شمل أمتنا في المؤتمرات التي عقدت والتصريحات التي أعلنها وأكد فيها المواقف الثابتة لدعم قضايانا وبخاصة القضية الفلسطينية. ولقد ريّخ سموه قيادات العالم له ونراهم جاهدين في سعيهم للقائه لسماع ما يرشدهم به أو يعينهم عليه. كما ويستمر ولي عهدنا في متابعة التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي أطلقها في «رؤية 2030». وها هو وزير خارجيتنا يجوب العالم ليجمع الكلمة ويوحد الصف. بينما يجول وزراؤنا العالم كذلك لجلب كل ما تحتاجه البلاد من صنائع وتقنيات واستثمارات لكي تتبوأ المملكة مركزها المحوري في رفع شأن مواطنيها وكمصدر إشعاع للإنسانية كما تمنى لها الشهيد فيصل بن عبد العزيز وهي اليوم كذلك. فها نحن نرى ما يقدمه مواطنونا من خدمات جليلة ليس فقط لحجاج بيت الله، سبحانه وتعالى، وإنما لجموع بني البشر في شتى أصقاع المعمورة من خلال مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، تلك الخدمات التي يقدمها مجاناً في 106 دول. فهنيئاً لنا ديننا الحنيف وسعادتنا بقيادتنا منذ عبد العزيز بن عبد الرحمن وحتى اليوم التي أوصلتنا لرغد العيش وعنان السماء.


تركي الفيصل

قراءة المزيد

ثمانون هذه الأمم

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

اليوم 26 يونيو (حزيران)، تكمل الأمم المتحدة عامها الثمانين، تكاد المناسبة تمر من دون أن يتذكرها أحد. المنظمة في أضعف حالاتها في العقود الثمانية التي مرت بها، والعالم في حروب إقليمية ذات طابع عالمي، بينما تبدو هي بعيدة وكأنها في كوكب آخر. حتى مجلس الأمن لم يعد يخيف المعتدي، أو يهيب المشتكي، أو يسعف الضحية والضعيف.

ثمة قناعة في العالم أجمع أنه لا بد من هذه المنظمة مهما تهالكت. هناك حاجة دائمة إلى مرجعية إنسانية قانونية، تردع التوترات والأخطار الرهيبة، التي قد تتحول لانفجار عالمي في أي لحظة. لكن المؤسسة التاريخية فقدت الكثير من جدواها عبر الزمن والمحن. وأي إصلاح عادي لن يفيد. بل لا بد من مؤتمر دولي، شبيه بالمؤتمر الذي أُعلن فيه تأسيسها عام 1945، يقدم للبشرية منظمة تتماشى مع انطلاقها من 50 دولة إلى نحو المائتين. منها ما هي في حجم الصين والهند، ومنها ما هي في حجم مندوبها في الجمعية العامة.

الحال أننا المنطقة التي لجأت إلى المنظمة أكثر من سواها. وأيضاً المنطقة التي خابت بها أكثر من سواها. فقد ولدت هي والقضية الفلسطينية في وقت واحد. الضعف العربي والتآمر الدولي. تسابق الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على من يقترع أولاً إلى جانب إسرائيل، إنها الحل بالنسبة للشرق والغرب معاً: إبعاد المسألة اليهودية من أوروبا إلى بلاد الساميين.

كانت منبراً جيداً لا أكثر. خطابات مؤثرة، وقرارات بلا تأثير. وتنافس في البلاغة بين المندوبين، وبعضهم من أشهر دبلوماسيي العرب: شارل مالك، وغسان تويني، وفارس الخوري (سوريا). بالإضافة إلى خطباء الجمعية العامة كل سنة من ملوك ورؤساء. وكان مبنى الأمم المتحدة يتحول خلال هذه الفترة إلى مهرجان الزعماء وزوجاتهم. والقادمون للتبضع والتمتع في أغنى وأهم مدن العالم. ولعل أحد أشهر هؤلاء كان الوزير (لاحقاً الرئيس) أندريه غروميكو. وكانت مناسبة سعيدة للجميع: تعارف وتبادل ومشتريات «فيفث أفنيو». والعشاء في مطعم البرجين الذي سيصبح عنوان الصراع التاريخي بين عالمين.

إلى اللقاء...


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

أي فرصة سلام بعد الصدمة؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

يكثر الحديث عن أخطار تحوّل الحرب الإسرائيلية على إيران إلى حرب إقليمية من دون التطرّق للأطراف المرشحة لخوضها وطبيعة الاصطفافات الممكنة. تحوّل الحرب إلى إقليمية مرجح في حالة واحدة، وهي تعرّض القواعد أو المصالح الأميركية أو الغربية الحليفة إلى أي اعتداء يستدعي التدخل المباشر للأميركيين وحلفائهم للرد، الأمر الذي يُعرض إيران للمزيد من المخاطر في هذه الحرب.

تسعى دول الجوار كافة، وبصدق، إلى احتواء النزاع العسكري ووقفه والوصول إلى تسوية في الإقليم تنهي مرحلة قاتمة من النزاعات وعدم الاستقرار يقارب عمرها نصف قرن، ولا مصلحة لها في تمدد هذه الحرب. وحدها إسرائيل لها مصلحة في توريط الولايات المتحدة، وانخراطها المباشر فيها.

بعد مضي عشرة أيام على بدء القتال، تبدو إيران وحيدةً من دون حلفاء، وأقصى ما حصلت عليه من حلفائها الاستراتيجيين في موسكو وبكين هو الدعوة إلى الحلول الدبلوماسية وضبط النفس والعودة إلى طاولة المفاوضات. بمعزل عن مسائل الحق والعدالة، يشي هذا المشهد بأن الحرب انتهت قبل أن تبدأ، ونتائجها معروفة سلفاً، إذ يصعب على إيران خوض هذه الحرب منفردة.

في السياق نفسه، ظهّرت هذه الحرب وبوضوح حقيقة المحطات التي شهدتها المنطقة منذ عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وهي مُرتَّبة بعناية ودقة ومنسقة لتصل إلى هذه النتيجة. حرب إسرائيل على إيران لم تكن لتكون متاحة من دون سقوط حلفاء إيران كأحجار الدومينو في غزة ودمشق وبيروت، وكان ليصعب الشروع بهذه الحرب وهم بجهوزيتهم الكاملة.

هذا لا يعني أن إسرائيل لم تكن تخطط لهذه الحرب قبل 7 أكتوبر، إنما «عملية الأقصى» وتداعياتها المحلية والإقليمية حفّزت إسرائيل على خوضها، كما حفزت حلفاءها الأميركيين والأوروبيين على تأمين الغطاء والدعم المطلوبين على الصعد كافة، لإنهاك «حماس» وتقويض قدرات «حزب الله»، وتكبيله، وهو الذي أنشئ للدفاع عن إيران حين تتعرض للاعتداء كما هو حاصل اليوم، كما هو حال بقية حلفائها في فلسطين والعراق واليمن.

لفهم ما تواجهه إيران اليوم، لا بد من التوقف عند أربع وقائع مفصلية تفسر الكثير مما يجري:

أولاً، أخفقت إيران في قراءة تداعيات سقوط حلفائها، في مقدمتهم النظام السوري، باعتباره خط الدفاع الأول عن نفوذها في المشرق.

ثانياً، لم تتوقع إيران أن تُقدم إسرائيل على شنّ هجمات بهذه الحدة، تستهدف منشآتها النووية تحديداً، في وقت كانت فيه المفاوضات مع واشنطن جارية، ما يكشف أن تل أبيب لم تعد تقيّد نفسها بالمسارات الدبلوماسية، وأنها باتت تتعامل مع التهديد الإيراني على أنه آنيّ ومُلح.

ثالثاً، بالغت في تقدير قدرتها الردعية، ليتضح لاحقاً ضعف جهوزيتها العسكرية والاستخباراتية والسياسية.

رابعاً، لم تُحصّن بنيتها الداخلية ولا برنامجها النووي كما كان يُفترض، في ظل اختراقات إسرائيلية تطرح تساؤلات جدية حول مدى صلابة النظام نفسه، وتفتح الباب أمام احتمال أن تكون بعض ركائزه الأساسية قد تآكلت من الداخل.

في هذا السياق، لا تهدف الحرب الدائرة إلى تحجيم القدرات النووية الإيرانية فحسب، بل إلى تفكيك شبكات الأمان الأمنية والاستخباراتية التي بنتها طهران على مدى أكثر من أربعين عاماً. إسرائيل، التي رأت في هجوم 7 أكتوبر تكريساً لـ«الطوق الناري» من الشمال والشرق، انتقلت من مرحلة التحذير إلى التنفيذ.

هذه النقاط تفسر المشهد الإيراني اليوم، ومهما كانت النتائج، سواء احتفظت بنسب تخصيب يورانيوم مقبولة أميركياً وإسرائيلياً، أم صفر تخصيب، إيران بعد هذه الحرب لن تكون كما قبلها، والتداعيات في الداخل ستظهر تدريجياً لتتبين ما سترسو عليه.

من المرجّح أن تتجاوز تداعيات هذه الحرب حدود إيران، لتطول إسرائيل. إن سقوط المنظمات المسلحة الخارجة عن الدولة في لبنان وسوريا، وربما لاحقاً في العراق، لن يُنتج واقعاً جديداً ومستقراً ما لم يُقابل أيضاً بتحول داخلي في إسرائيل، تحديداً على مستوى تراجع هيمنة اليمين الديني المتشدد على السلطة. فالتغيير الحقيقي في المنطقة لا يُمكن أن يتحقق إذا استمر منطق الغلبة العسكرية يفرض نفسه على حساب السياسة. وإذا ما تقلّص الدور الإيراني نتيجة هذه الحرب، فستعود السياسة لتلعب الدور المركزي في رسم ملامح المستقبل.

هنا تحديداً، تبرز الحاجة إلى دور عربي فاعل من دول المشرق والخليج، بالتعاون مع الشركاء الدوليين، الذي يمكن أن يشكل بديلاً متماسكاً، ويؤسس لمنظومة إقليمية جديدة قائمة على الأمن، السلام، والتكامل الاقتصادي. فالانتقال إلى المستقبل لا يمكن أن يتم إلا من خلال مشروع تحديثي شامل، يعيد الاعتبار إلى منطق الدولة والمؤسسات، ويطوي صفحة العنف الآيديولوجي والتدخلات العابرة للحدود.


سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.

قراءة المزيد

«طوارق» الليل والنهار

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

بالنسبة لأميركا، فإنَّ ما جرى فجر الأحد، هو نصرٌ عسكري خاطف وحاسم، ضد المشروع النووي الإيراني، وبالنسبة لمسيّري السلطة في إيران، فإنَّ ذلك الهجوم الأميركي الموعود، هجوم عقيم، وإعلان حرب.

هجومٌ استثنائي بأمهات القذائف، محمولة في بطن أمهات المقاتلات الجويّة، وهي «المُعدّات» الأميركية العسكرية، التي لا يمكن لأحدٍ في العالم أن يصنع مثلها، كما قال ترمب متفاخراً.

الرئيس الإيراني بزشكيان قال إنَّ على الأميركيين أن يتلقّوا ردّاً على هجماتهم، كما قال وزير خارجيته عراقجي إنه ذاهبٌ لروسيا، وإنه يجب التجهيز للردّ على الضربة الأميركية، بينما قال وزير الخارجية الأميركي روبيو إن أي ردّ إيراني على أهداف ومصالح أميركية، سيكون أكبر خطأ فادح!

عملية «مطرقة منتصف الليل» التي أمر بها ترمب، استهدفت «جواهر» المشروع الإيراني النووي: فوردو، ونطنز، وأصفهان.

وقبل ذلك تكفّلت إسرائيل بضربات سابقة لبعض هذه الجواهر، كما منشأة «أراك».

ترمب يقول إنه تمّ «محو» المشروع النووي الإيراني، ونائبه دي فانس يقول: «لقد أخّرناهم سنين عدداً»، وبين الصيغتين فرقٌ ظاهر، والأهم أن قادة السلطة بإيران يزعمون أنهم هربوا بأصولهم النووية (اليورانيوم المُخصّب) من موقع فوردو، قبل الهجوم، بل زعم بعضهم تهريب أجهزة الطرد التي تُخصّب اليورانيوم. وفي الحرب لا تستطيع التفريق بين الحقيقة والدعاية، كما علّمنا تاريخ إعلام الحروب.

وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في «إغاظة» للأمريكان والإسرائيليين، يقول إنَّ المشروع النووي «فكرة» وليس مجرد منشآت، وإن هذه الفكرة محفوظة في العقل الإيراني، حتى لو دُمّر كل حجر على حجر نووي... هكذا قال.

وهذا ذكرني بحكاية ظريفة من تراثنا الإسلامي العربي، عن العالم الأندلسي الشهير (ابن حزم، توفي 456هـ - 1064م) الذي تألّب أعداؤه عليه، وحرقوا كتبه، فقال ساخراً منهم، ومُعزّياً نفسه:

فإن تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي تضَمَّنَهُ القرطاسُ بل هو في صَدرِي

يسير معي حيث استقلّتُ ركائبي وينزلُ إن أنزلْ ويُدفنُ في قبرِي! في نهاية اليوم، لا بدّ من خلق مسار سياسي جديد، تندرج فيه إيران، فالحياة ليست كلها خشونة وعقوبة، وليس أخطر من اليائس المحشور في زُقاق لا منفذ له!

ربما من أجل ذلك، حاول دي فانس، نائب ترمب، أن يفتح هذا الشبّاك، في حواره مع برنامج «ميت ذا برس» مع كريستين ويلكر، حين قال: «نريد التحدث مع الإيرانيين بشأن تسوية طويلة الأمد هنا».

صحيح أنَّ الحروب جزءٌ أصيلٌ من طبيعة الزمان البشري، لكنَّها إن طالت واستبدّت بكل اللحظات، قلبت حياة الجميع، الجميع بلا فرق، إلى يأس وقنوط رمادي مرهق.

لا بد من الحياة... ولا بد من السياسة عند غروب شمس الحروب وشروق فجر الأمل... وكفانا الله «طوارق» الليل والنهار.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

«طوارق» الليل والنهار

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

بالنسبة لأميركا، فإنَّ ما جرى فجر الأحد، هو نصرٌ عسكري خاطف وحاسم، ضد المشروع النووي الإيراني، وبالنسبة لمسيّري السلطة في إيران، فإنَّ ذلك الهجوم الأميركي الموعود، هجوم عقيم، وإعلان حرب.

هجومٌ استثنائي بأمهات القذائف، محمولة في بطن أمهات المقاتلات الجويّة، وهي «المُعدّات» الأميركية العسكرية، التي لا يمكن لأحدٍ في العالم أن يصنع مثلها، كما قال ترمب متفاخراً.

الرئيس الإيراني بزشكيان قال إنَّ على الأميركيين أن يتلقّوا ردّاً على هجماتهم، كما قال وزير خارجيته عراقجي إنه ذاهبٌ لروسيا، وإنه يجب التجهيز للردّ على الضربة الأميركية، بينما قال وزير الخارجية الأميركي روبيو إن أي ردّ إيراني على أهداف ومصالح أميركية، سيكون أكبر خطأ فادح!

عملية «مطرقة منتصف الليل» التي أمر بها ترمب، استهدفت «جواهر» المشروع الإيراني النووي: فوردو، ونطنز، وأصفهان.

وقبل ذلك تكفّلت إسرائيل بضربات سابقة لبعض هذه الجواهر، كما منشأة «أراك».

ترمب يقول إنه تمّ «محو» المشروع النووي الإيراني، ونائبه دي فانس يقول: «لقد أخّرناهم سنين عدداً»، وبين الصيغتين فرقٌ ظاهر، والأهم أن قادة السلطة بإيران يزعمون أنهم هربوا بأصولهم النووية (اليورانيوم المُخصّب) من موقع فوردو، قبل الهجوم، بل زعم بعضهم تهريب أجهزة الطرد التي تُخصّب اليورانيوم. وفي الحرب لا تستطيع التفريق بين الحقيقة والدعاية، كما علّمنا تاريخ إعلام الحروب.

وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في «إغاظة» للأمريكان والإسرائيليين، يقول إنَّ المشروع النووي «فكرة» وليس مجرد منشآت، وإن هذه الفكرة محفوظة في العقل الإيراني، حتى لو دُمّر كل حجر على حجر نووي... هكذا قال.

وهذا ذكرني بحكاية ظريفة من تراثنا الإسلامي العربي، عن العالم الأندلسي الشهير (ابن حزم، توفي 456هـ - 1064م) الذي تألّب أعداؤه عليه، وحرقوا كتبه، فقال ساخراً منهم، ومُعزّياً نفسه:

فإن تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي تضَمَّنَهُ القرطاسُ بل هو في صَدرِي

يسير معي حيث استقلّتُ ركائبي وينزلُ إن أنزلْ ويُدفنُ في قبرِي! في نهاية اليوم، لا بدّ من خلق مسار سياسي جديد، تندرج فيه إيران، فالحياة ليست كلها خشونة وعقوبة، وليس أخطر من اليائس المحشور في زُقاق لا منفذ له!

ربما من أجل ذلك، حاول دي فانس، نائب ترمب، أن يفتح هذا الشبّاك، في حواره مع برنامج «ميت ذا برس» مع كريستين ويلكر، حين قال: «نريد التحدث مع الإيرانيين بشأن تسوية طويلة الأمد هنا».

صحيح أنَّ الحروب جزءٌ أصيلٌ من طبيعة الزمان البشري، لكنَّها إن طالت واستبدّت بكل اللحظات، قلبت حياة الجميع، الجميع بلا فرق، إلى يأس وقنوط رمادي مرهق.

لا بد من الحياة... ولا بد من السياسة عند غروب شمس الحروب وشروق فجر الأمل... وكفانا الله «طوارق» الليل والنهار.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

«طوارق» الليل والنهار

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

بالنسبة لأميركا، فإنَّ ما جرى فجر الأحد، هو نصرٌ عسكري خاطف وحاسم، ضد المشروع النووي الإيراني، وبالنسبة لمسيّري السلطة في إيران، فإنَّ ذلك الهجوم الأميركي الموعود، هجوم عقيم، وإعلان حرب.

هجومٌ استثنائي بأمهات القذائف، محمولة في بطن أمهات المقاتلات الجويّة، وهي «المُعدّات» الأميركية العسكرية، التي لا يمكن لأحدٍ في العالم أن يصنع مثلها، كما قال ترمب متفاخراً.

الرئيس الإيراني بزشكيان قال إنَّ على الأميركيين أن يتلقّوا ردّاً على هجماتهم، كما قال وزير خارجيته عراقجي إنه ذاهبٌ لروسيا، وإنه يجب التجهيز للردّ على الضربة الأميركية، بينما قال وزير الخارجية الأميركي روبيو إن أي ردّ إيراني على أهداف ومصالح أميركية، سيكون أكبر خطأ فادح!

عملية «مطرقة منتصف الليل» التي أمر بها ترمب، استهدفت «جواهر» المشروع الإيراني النووي: فوردو، ونطنز، وأصفهان.

وقبل ذلك تكفّلت إسرائيل بضربات سابقة لبعض هذه الجواهر، كما منشأة «أراك».

ترمب يقول إنه تمّ «محو» المشروع النووي الإيراني، ونائبه دي فانس يقول: «لقد أخّرناهم سنين عدداً»، وبين الصيغتين فرقٌ ظاهر، والأهم أن قادة السلطة بإيران يزعمون أنهم هربوا بأصولهم النووية (اليورانيوم المُخصّب) من موقع فوردو، قبل الهجوم، بل زعم بعضهم تهريب أجهزة الطرد التي تُخصّب اليورانيوم. وفي الحرب لا تستطيع التفريق بين الحقيقة والدعاية، كما علّمنا تاريخ إعلام الحروب.

وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في «إغاظة» للأمريكان والإسرائيليين، يقول إنَّ المشروع النووي «فكرة» وليس مجرد منشآت، وإن هذه الفكرة محفوظة في العقل الإيراني، حتى لو دُمّر كل حجر على حجر نووي... هكذا قال.

وهذا ذكرني بحكاية ظريفة من تراثنا الإسلامي العربي، عن العالم الأندلسي الشهير (ابن حزم، توفي 456هـ - 1064م) الذي تألّب أعداؤه عليه، وحرقوا كتبه، فقال ساخراً منهم، ومُعزّياً نفسه:

فإن تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي تضَمَّنَهُ القرطاسُ بل هو في صَدرِي

يسير معي حيث استقلّتُ ركائبي وينزلُ إن أنزلْ ويُدفنُ في قبرِي! في نهاية اليوم، لا بدّ من خلق مسار سياسي جديد، تندرج فيه إيران، فالحياة ليست كلها خشونة وعقوبة، وليس أخطر من اليائس المحشور في زُقاق لا منفذ له!

ربما من أجل ذلك، حاول دي فانس، نائب ترمب، أن يفتح هذا الشبّاك، في حواره مع برنامج «ميت ذا برس» مع كريستين ويلكر، حين قال: «نريد التحدث مع الإيرانيين بشأن تسوية طويلة الأمد هنا».

صحيح أنَّ الحروب جزءٌ أصيلٌ من طبيعة الزمان البشري، لكنَّها إن طالت واستبدّت بكل اللحظات، قلبت حياة الجميع، الجميع بلا فرق، إلى يأس وقنوط رمادي مرهق.

لا بد من الحياة... ولا بد من السياسة عند غروب شمس الحروب وشروق فجر الأمل... وكفانا الله «طوارق» الليل والنهار.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

«طوارق» الليل والنهار

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

بالنسبة لأميركا، فإنَّ ما جرى فجر الأحد، هو نصرٌ عسكري خاطف وحاسم، ضد المشروع النووي الإيراني، وبالنسبة لمسيّري السلطة في إيران، فإنَّ ذلك الهجوم الأميركي الموعود، هجوم عقيم، وإعلان حرب.

هجومٌ استثنائي بأمهات القذائف، محمولة في بطن أمهات المقاتلات الجويّة، وهي «المُعدّات» الأميركية العسكرية، التي لا يمكن لأحدٍ في العالم أن يصنع مثلها، كما قال ترمب متفاخراً.

الرئيس الإيراني بزشكيان قال إنَّ على الأميركيين أن يتلقّوا ردّاً على هجماتهم، كما قال وزير خارجيته عراقجي إنه ذاهبٌ لروسيا، وإنه يجب التجهيز للردّ على الضربة الأميركية، بينما قال وزير الخارجية الأميركي روبيو إن أي ردّ إيراني على أهداف ومصالح أميركية، سيكون أكبر خطأ فادح!

عملية «مطرقة منتصف الليل» التي أمر بها ترمب، استهدفت «جواهر» المشروع الإيراني النووي: فوردو، ونطنز، وأصفهان.

وقبل ذلك تكفّلت إسرائيل بضربات سابقة لبعض هذه الجواهر، كما منشأة «أراك».

ترمب يقول إنه تمّ «محو» المشروع النووي الإيراني، ونائبه دي فانس يقول: «لقد أخّرناهم سنين عدداً»، وبين الصيغتين فرقٌ ظاهر، والأهم أن قادة السلطة بإيران يزعمون أنهم هربوا بأصولهم النووية (اليورانيوم المُخصّب) من موقع فوردو، قبل الهجوم، بل زعم بعضهم تهريب أجهزة الطرد التي تُخصّب اليورانيوم. وفي الحرب لا تستطيع التفريق بين الحقيقة والدعاية، كما علّمنا تاريخ إعلام الحروب.

وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في «إغاظة» للأمريكان والإسرائيليين، يقول إنَّ المشروع النووي «فكرة» وليس مجرد منشآت، وإن هذه الفكرة محفوظة في العقل الإيراني، حتى لو دُمّر كل حجر على حجر نووي... هكذا قال.

وهذا ذكرني بحكاية ظريفة من تراثنا الإسلامي العربي، عن العالم الأندلسي الشهير (ابن حزم، توفي 456هـ - 1064م) الذي تألّب أعداؤه عليه، وحرقوا كتبه، فقال ساخراً منهم، ومُعزّياً نفسه:

فإن تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي تضَمَّنَهُ القرطاسُ بل هو في صَدرِي

يسير معي حيث استقلّتُ ركائبي وينزلُ إن أنزلْ ويُدفنُ في قبرِي! في نهاية اليوم، لا بدّ من خلق مسار سياسي جديد، تندرج فيه إيران، فالحياة ليست كلها خشونة وعقوبة، وليس أخطر من اليائس المحشور في زُقاق لا منفذ له!

ربما من أجل ذلك، حاول دي فانس، نائب ترمب، أن يفتح هذا الشبّاك، في حواره مع برنامج «ميت ذا برس» مع كريستين ويلكر، حين قال: «نريد التحدث مع الإيرانيين بشأن تسوية طويلة الأمد هنا».

صحيح أنَّ الحروب جزءٌ أصيلٌ من طبيعة الزمان البشري، لكنَّها إن طالت واستبدّت بكل اللحظات، قلبت حياة الجميع، الجميع بلا فرق، إلى يأس وقنوط رمادي مرهق.

لا بد من الحياة... ولا بد من السياسة عند غروب شمس الحروب وشروق فجر الأمل... وكفانا الله «طوارق» الليل والنهار.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

ثلاثةُ ملاكمين وهاويةٌ غير مسبوقة

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

مشاهدُ غيرُ مسبوقةٍ في الشرقِ الأوسط الرهيب. على المسرحِ السَّاخن ثلاثةٌ من كبارِ الملاكمين وبقعُ دمٍ وبحيراتُ ركام. استيقظَ أهلُ المنطقة فاكتشفوا أنَّ القاذفاتِ الأميركية انقضَّت فجراً على ثلاث منشآتٍ نووية إيرانية. استيقظَ الإسرائيليون فوجدوا في مدنِهم دماراً لم يعاينوا مثلَه منذ قيامِ الدَّولة في 1948. استيقظَ الإيرانيون فوجدوا أجواءَ بلادهم في قبضةِ المقاتلات الإسرائيلية تنهال بالقذائف على القواعدِ العسكرية والراداراتِ والمنصات وتصطاد الجنرالاتِ والعلماءَ النوويين.

ثلاثةُ ملاكمين ستمسُّ قراراتهم أمنَ المنطقة واستقرارَها وسلامةَ الشرايين التي تربطها بالعالم. والقصةُ أبعد من هرمز وأخطر. ثلاثة يملكون القدرةَ على تسديد الضربات ويفتقرون إلى القدرة على التراجع بعدمَا ذهبوا بعيداً. ثلاثة ملاكمين يريد كلٌّ منهم توسيعَ دور بلاده أو إعادتها عظيمة.

وُلد كبير الملاكمين في 14 يونيو (حزيران) 1946. شاءتِ الصدفة أن يُولد في الشهر الذي أنجبَ عدداً قياسياً من الحروب في الشرق الأوسط. شاءت أيضاً أن يحتفل بميلادِه في اليوم التالي للغارات الإسرائيلية على إيران. بدأ قبل أيام في إنفاق السنةِ الأخيرة من سبعيناتِه وستدركه الثمانينات خلال إقامتِه في البيت الأبيض.

لم يقاتل في فيتنام ولا في غيرها. سلك طريقَ الأعمال وتعلَّم «فن الصفقة». هاجسُه الربح ولا يميل إلى الإقرار بالخسارة. أدرك سحر الشاشة فأطلَّ منها على الأميركيين وحفظوا عن ظهر قلب عبارته الشهيرة «أنت مطرود».

أثار النجاح في عالم العقارات شهيتَه في الإمساك بمفاتيح البيت الأبيض. تقلَّب بين الأحزاب ثم انخرط في الحزب الجمهوري ونجح لاحقاً في الاستيلاء عليه وعلى البيت الأبيض. رجل من خارج المؤسسة أمسك بالقرار في «القوة العظمى الوحيدة».

في ولايته الأولى اتخذ دونالد ترمب قرارين خطيرين لهما علاقة بالوضع الحاضر؛ الأول الخروج من الاتفاق النووي مع إيران والثاني قتل الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد الدولي. لكنَّه حين أطل في ولايته الثانية قدم نفسه في صورة التَّواق إلى إنهاء الحروب ودخول التاريخ من بوابة صنع السلام وجائزة نوبل. وفي الملف النووي الإيراني فاوض وحدَّد مهلاً ولوّح بالأهوال وكان ما كان والذي تُوّج بالغارات الأميركية على المنشآت النووية.

وُلد الملاكم الثاني في 19 أبريل (نيسان) 1939. يبحر الآن في النصف الثاني من الثمانينات. في الرابع من يونيو (حزيران) 1989 صار لقبُه «المرشد الأعلى للثورة الإسلامية». ليس بسيطاً على الإطلاق أن يُؤتمنَ شخصٌ على إرث الخميني، وأن يتمتع بصلاحيات بلا حدود في دولة مثل إيران. واصل علي خامنئي سياسةَ تصدير الثورة، وهي بند في دستور البلاد. رعَى برنامج قاسم سليماني الذي نصَّ على تطويق إسرائيل والمنطقة بالصواريخ و«الجيوش الموازية».

وفي عهد خامنئي حقَّقت إيران اختراقات كبرى في عراق ما بعد صدام حسين ويمن ما بعد علي عبد الله صالح وسوريا ولبنان. لكن هذه النجاحات تعرَّضت لما يشبه الإعصار بعد «الطوفان» الذي أطلقه يحيى السنوار. سقطت الحلقة السورية وهَا هو بشار الأسد يتابع الحرائقَ من منفاه الروسي فيما تمكَّن أحمد الشرع من إبعاد سوريا عن النار.

مشهد لا يقل إيلاماً للمرشد وهو رؤية «حزب الله» اللبناني بلا حسن نصر الله وبلا قدرة على خوض حرب جديدة مع إسرائيل ولو نصرة لإيران نفسها. كان من الصعب على خامنئي المقيم في النصف الثاني من الثمانينات تقديم هدية كبيرة لقاتل سليماني لاتقاء ضربات قاتل نصر الله.

تكاثرت المشاهد غير المسبوقةِ على المرشد في الآونة الأخيرة. إسماعيل هنية زعيم «حماس» يُقتل في طهران نفسها. ونصر الله يُقتل في بيروت مع عدد من أركانه. والسنوار وقادة «حماس» يُقتلون في غزة. والشرع يفوز بالمصافحاتِ ووعود المساعدات ويغسل يدي سوريا من العصر الإيراني. ثم جاء ترمب يعرض على إيران العيش بلا سوريا و«الأذرع» وبلا «بوليصة تأمين» ازدادت الحاجة إليها، وهي القنبلة النووية أو الإقامة على شفير صناعتها. لم يستطع خامنئي منع اتفاق الملاكمين الآخرين ضد بلاده.

وُلد الملاكم الثالث في تل أبيب في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1949. يبحر الآن في النصف الثاني من السبعينات. سجل عدداً من الأرقام القياسية التي أنهكتِ المنطقة. أمضَى حتى الآن 17 عاماً في مكتب رئيس الوزراء متخطياً كلَّ أسلافه. صاحب الرقم القياسي أيضاً في قتل الفلسطينيين وقياداتهم والأمر نفسه بالنسبة إلى قياديي «حزب الله» اللبناني.

منذ سنوات طويلة وهو يحلم بنقل المعركة إلى «مسرحها الحقيقي» أي المواجهة المباشرة مع إيران. اعتبر برنامجَها النووي «خطراً وجودياً» وطرق مراراً أبواب البيت الأبيض سعياً إلى مشاركة أميركية في إطلاق إعصار ضدها. واضح أنَّ بنيامين نتنياهو نجح في التسلل إلى عقل ترمب وحساباته وانعطافاته.

مستقبل المنطقة يتوقَّف الآن على قرارات ثلاثة ملاكمين يعنيهم مستقبل صورتهم في التاريخ. اللعبة حرجة وخطرة. إذا ردَّ الملاكم الإيراني على الملاكم الأميركي مباشرة فإنَّ حرباً بهذا الحجم قد تصدع ركائز النظام نفسه. ويصعب الاعتقاد أنَّه يستطيع إطالة أمد تبادل الضربات مع الملاكم الإسرائيلي من دون مواجهة تدخل أميركي.

ذات يوم قالَ قاسم سليماني أمام حلقةٍ صغيرةٍ إنَّ الخيط الأميركي هو ما يحفظ «التوازنات الظالمة» في الشرق الأوسط، وإنَّه «لا بدَّ من قطع هذا الخيط، وهذا ممكن». قال أيضاً إنَّه إذا كانت إسرائيل حاملة طائرات أميركية فإنَّ الحاملات تغرق إذا أصيبت بثقوب عميقة وفقد سكانها ثقتهم بجيشهم وحكومتهم.

هل اتَّفق الملاكمان الإسرائيلي والأميركي على تدمير البرنامجِ النووي الإيراني وقطع الخيط الذي يربط طهران بمسارح الأذرع؟ ثلاثةٌ من كبار الملاكمين ومشاهدُ غيرُ مسبوقةٍ فمن يستطيع استعادة الشرق الأوسط الرهيب من الهاوية؟


غسان شربل
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»

قراءة المزيد

ثلاثةُ ملاكمين وهاويةٌ غير مسبوقة

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

مشاهدُ غيرُ مسبوقةٍ في الشرقِ الأوسط الرهيب. على المسرحِ السَّاخن ثلاثةٌ من كبارِ الملاكمين وبقعُ دمٍ وبحيراتُ ركام. استيقظَ أهلُ المنطقة فاكتشفوا أنَّ القاذفاتِ الأميركية انقضَّت فجراً على ثلاث منشآتٍ نووية إيرانية. استيقظَ الإسرائيليون فوجدوا في مدنِهم دماراً لم يعاينوا مثلَه منذ قيامِ الدَّولة في 1948. استيقظَ الإيرانيون فوجدوا أجواءَ بلادهم في قبضةِ المقاتلات الإسرائيلية تنهال بالقذائف على القواعدِ العسكرية والراداراتِ والمنصات وتصطاد الجنرالاتِ والعلماءَ النوويين.

ثلاثةُ ملاكمين ستمسُّ قراراتهم أمنَ المنطقة واستقرارَها وسلامةَ الشرايين التي تربطها بالعالم. والقصةُ أبعد من هرمز وأخطر. ثلاثة يملكون القدرةَ على تسديد الضربات ويفتقرون إلى القدرة على التراجع بعدمَا ذهبوا بعيداً. ثلاثة ملاكمين يريد كلٌّ منهم توسيعَ دور بلاده أو إعادتها عظيمة.

وُلد كبير الملاكمين في 14 يونيو (حزيران) 1946. شاءتِ الصدفة أن يُولد في الشهر الذي أنجبَ عدداً قياسياً من الحروب في الشرق الأوسط. شاءت أيضاً أن يحتفل بميلادِه في اليوم التالي للغارات الإسرائيلية على إيران. بدأ قبل أيام في إنفاق السنةِ الأخيرة من سبعيناتِه وستدركه الثمانينات خلال إقامتِه في البيت الأبيض.

لم يقاتل في فيتنام ولا في غيرها. سلك طريقَ الأعمال وتعلَّم «فن الصفقة». هاجسُه الربح ولا يميل إلى الإقرار بالخسارة. أدرك سحر الشاشة فأطلَّ منها على الأميركيين وحفظوا عن ظهر قلب عبارته الشهيرة «أنت مطرود».

أثار النجاح في عالم العقارات شهيتَه في الإمساك بمفاتيح البيت الأبيض. تقلَّب بين الأحزاب ثم انخرط في الحزب الجمهوري ونجح لاحقاً في الاستيلاء عليه وعلى البيت الأبيض. رجل من خارج المؤسسة أمسك بالقرار في «القوة العظمى الوحيدة».

في ولايته الأولى اتخذ دونالد ترمب قرارين خطيرين لهما علاقة بالوضع الحاضر؛ الأول الخروج من الاتفاق النووي مع إيران والثاني قتل الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد الدولي. لكنَّه حين أطل في ولايته الثانية قدم نفسه في صورة التَّواق إلى إنهاء الحروب ودخول التاريخ من بوابة صنع السلام وجائزة نوبل. وفي الملف النووي الإيراني فاوض وحدَّد مهلاً ولوّح بالأهوال وكان ما كان والذي تُوّج بالغارات الأميركية على المنشآت النووية.

وُلد الملاكم الثاني في 19 أبريل (نيسان) 1939. يبحر الآن في النصف الثاني من الثمانينات. في الرابع من يونيو (حزيران) 1989 صار لقبُه «المرشد الأعلى للثورة الإسلامية». ليس بسيطاً على الإطلاق أن يُؤتمنَ شخصٌ على إرث الخميني، وأن يتمتع بصلاحيات بلا حدود في دولة مثل إيران. واصل علي خامنئي سياسةَ تصدير الثورة، وهي بند في دستور البلاد. رعَى برنامج قاسم سليماني الذي نصَّ على تطويق إسرائيل والمنطقة بالصواريخ و«الجيوش الموازية».

وفي عهد خامنئي حقَّقت إيران اختراقات كبرى في عراق ما بعد صدام حسين ويمن ما بعد علي عبد الله صالح وسوريا ولبنان. لكن هذه النجاحات تعرَّضت لما يشبه الإعصار بعد «الطوفان» الذي أطلقه يحيى السنوار. سقطت الحلقة السورية وهَا هو بشار الأسد يتابع الحرائقَ من منفاه الروسي فيما تمكَّن أحمد الشرع من إبعاد سوريا عن النار.

مشهد لا يقل إيلاماً للمرشد وهو رؤية «حزب الله» اللبناني بلا حسن نصر الله وبلا قدرة على خوض حرب جديدة مع إسرائيل ولو نصرة لإيران نفسها. كان من الصعب على خامنئي المقيم في النصف الثاني من الثمانينات تقديم هدية كبيرة لقاتل سليماني لاتقاء ضربات قاتل نصر الله.

تكاثرت المشاهد غير المسبوقةِ على المرشد في الآونة الأخيرة. إسماعيل هنية زعيم «حماس» يُقتل في طهران نفسها. ونصر الله يُقتل في بيروت مع عدد من أركانه. والسنوار وقادة «حماس» يُقتلون في غزة. والشرع يفوز بالمصافحاتِ ووعود المساعدات ويغسل يدي سوريا من العصر الإيراني. ثم جاء ترمب يعرض على إيران العيش بلا سوريا و«الأذرع» وبلا «بوليصة تأمين» ازدادت الحاجة إليها، وهي القنبلة النووية أو الإقامة على شفير صناعتها. لم يستطع خامنئي منع اتفاق الملاكمين الآخرين ضد بلاده.

وُلد الملاكم الثالث في تل أبيب في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1949. يبحر الآن في النصف الثاني من السبعينات. سجل عدداً من الأرقام القياسية التي أنهكتِ المنطقة. أمضَى حتى الآن 17 عاماً في مكتب رئيس الوزراء متخطياً كلَّ أسلافه. صاحب الرقم القياسي أيضاً في قتل الفلسطينيين وقياداتهم والأمر نفسه بالنسبة إلى قياديي «حزب الله» اللبناني.

منذ سنوات طويلة وهو يحلم بنقل المعركة إلى «مسرحها الحقيقي» أي المواجهة المباشرة مع إيران. اعتبر برنامجَها النووي «خطراً وجودياً» وطرق مراراً أبواب البيت الأبيض سعياً إلى مشاركة أميركية في إطلاق إعصار ضدها. واضح أنَّ بنيامين نتنياهو نجح في التسلل إلى عقل ترمب وحساباته وانعطافاته.

مستقبل المنطقة يتوقَّف الآن على قرارات ثلاثة ملاكمين يعنيهم مستقبل صورتهم في التاريخ. اللعبة حرجة وخطرة. إذا ردَّ الملاكم الإيراني على الملاكم الأميركي مباشرة فإنَّ حرباً بهذا الحجم قد تصدع ركائز النظام نفسه. ويصعب الاعتقاد أنَّه يستطيع إطالة أمد تبادل الضربات مع الملاكم الإسرائيلي من دون مواجهة تدخل أميركي.

ذات يوم قالَ قاسم سليماني أمام حلقةٍ صغيرةٍ إنَّ الخيط الأميركي هو ما يحفظ «التوازنات الظالمة» في الشرق الأوسط، وإنَّه «لا بدَّ من قطع هذا الخيط، وهذا ممكن». قال أيضاً إنَّه إذا كانت إسرائيل حاملة طائرات أميركية فإنَّ الحاملات تغرق إذا أصيبت بثقوب عميقة وفقد سكانها ثقتهم بجيشهم وحكومتهم.

هل اتَّفق الملاكمان الإسرائيلي والأميركي على تدمير البرنامجِ النووي الإيراني وقطع الخيط الذي يربط طهران بمسارح الأذرع؟ ثلاثةٌ من كبار الملاكمين ومشاهدُ غيرُ مسبوقةٍ فمن يستطيع استعادة الشرق الأوسط الرهيب من الهاوية؟


غسان شربل
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»

قراءة المزيد

ثلاثةُ ملاكمين وهاويةٌ غير مسبوقة

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

مشاهدُ غيرُ مسبوقةٍ في الشرقِ الأوسط الرهيب. على المسرحِ السَّاخن ثلاثةٌ من كبارِ الملاكمين وبقعُ دمٍ وبحيراتُ ركام. استيقظَ أهلُ المنطقة فاكتشفوا أنَّ القاذفاتِ الأميركية انقضَّت فجراً على ثلاث منشآتٍ نووية إيرانية. استيقظَ الإسرائيليون فوجدوا في مدنِهم دماراً لم يعاينوا مثلَه منذ قيامِ الدَّولة في 1948. استيقظَ الإيرانيون فوجدوا أجواءَ بلادهم في قبضةِ المقاتلات الإسرائيلية تنهال بالقذائف على القواعدِ العسكرية والراداراتِ والمنصات وتصطاد الجنرالاتِ والعلماءَ النوويين.

ثلاثةُ ملاكمين ستمسُّ قراراتهم أمنَ المنطقة واستقرارَها وسلامةَ الشرايين التي تربطها بالعالم. والقصةُ أبعد من هرمز وأخطر. ثلاثة يملكون القدرةَ على تسديد الضربات ويفتقرون إلى القدرة على التراجع بعدمَا ذهبوا بعيداً. ثلاثة ملاكمين يريد كلٌّ منهم توسيعَ دور بلاده أو إعادتها عظيمة.

وُلد كبير الملاكمين في 14 يونيو (حزيران) 1946. شاءتِ الصدفة أن يُولد في الشهر الذي أنجبَ عدداً قياسياً من الحروب في الشرق الأوسط. شاءت أيضاً أن يحتفل بميلادِه في اليوم التالي للغارات الإسرائيلية على إيران. بدأ قبل أيام في إنفاق السنةِ الأخيرة من سبعيناتِه وستدركه الثمانينات خلال إقامتِه في البيت الأبيض.

لم يقاتل في فيتنام ولا في غيرها. سلك طريقَ الأعمال وتعلَّم «فن الصفقة». هاجسُه الربح ولا يميل إلى الإقرار بالخسارة. أدرك سحر الشاشة فأطلَّ منها على الأميركيين وحفظوا عن ظهر قلب عبارته الشهيرة «أنت مطرود».

أثار النجاح في عالم العقارات شهيتَه في الإمساك بمفاتيح البيت الأبيض. تقلَّب بين الأحزاب ثم انخرط في الحزب الجمهوري ونجح لاحقاً في الاستيلاء عليه وعلى البيت الأبيض. رجل من خارج المؤسسة أمسك بالقرار في «القوة العظمى الوحيدة».

في ولايته الأولى اتخذ دونالد ترمب قرارين خطيرين لهما علاقة بالوضع الحاضر؛ الأول الخروج من الاتفاق النووي مع إيران والثاني قتل الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد الدولي. لكنَّه حين أطل في ولايته الثانية قدم نفسه في صورة التَّواق إلى إنهاء الحروب ودخول التاريخ من بوابة صنع السلام وجائزة نوبل. وفي الملف النووي الإيراني فاوض وحدَّد مهلاً ولوّح بالأهوال وكان ما كان والذي تُوّج بالغارات الأميركية على المنشآت النووية.

وُلد الملاكم الثاني في 19 أبريل (نيسان) 1939. يبحر الآن في النصف الثاني من الثمانينات. في الرابع من يونيو (حزيران) 1989 صار لقبُه «المرشد الأعلى للثورة الإسلامية». ليس بسيطاً على الإطلاق أن يُؤتمنَ شخصٌ على إرث الخميني، وأن يتمتع بصلاحيات بلا حدود في دولة مثل إيران. واصل علي خامنئي سياسةَ تصدير الثورة، وهي بند في دستور البلاد. رعَى برنامج قاسم سليماني الذي نصَّ على تطويق إسرائيل والمنطقة بالصواريخ و«الجيوش الموازية».

وفي عهد خامنئي حقَّقت إيران اختراقات كبرى في عراق ما بعد صدام حسين ويمن ما بعد علي عبد الله صالح وسوريا ولبنان. لكن هذه النجاحات تعرَّضت لما يشبه الإعصار بعد «الطوفان» الذي أطلقه يحيى السنوار. سقطت الحلقة السورية وهَا هو بشار الأسد يتابع الحرائقَ من منفاه الروسي فيما تمكَّن أحمد الشرع من إبعاد سوريا عن النار.

مشهد لا يقل إيلاماً للمرشد وهو رؤية «حزب الله» اللبناني بلا حسن نصر الله وبلا قدرة على خوض حرب جديدة مع إسرائيل ولو نصرة لإيران نفسها. كان من الصعب على خامنئي المقيم في النصف الثاني من الثمانينات تقديم هدية كبيرة لقاتل سليماني لاتقاء ضربات قاتل نصر الله.

تكاثرت المشاهد غير المسبوقةِ على المرشد في الآونة الأخيرة. إسماعيل هنية زعيم «حماس» يُقتل في طهران نفسها. ونصر الله يُقتل في بيروت مع عدد من أركانه. والسنوار وقادة «حماس» يُقتلون في غزة. والشرع يفوز بالمصافحاتِ ووعود المساعدات ويغسل يدي سوريا من العصر الإيراني. ثم جاء ترمب يعرض على إيران العيش بلا سوريا و«الأذرع» وبلا «بوليصة تأمين» ازدادت الحاجة إليها، وهي القنبلة النووية أو الإقامة على شفير صناعتها. لم يستطع خامنئي منع اتفاق الملاكمين الآخرين ضد بلاده.

وُلد الملاكم الثالث في تل أبيب في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1949. يبحر الآن في النصف الثاني من السبعينات. سجل عدداً من الأرقام القياسية التي أنهكتِ المنطقة. أمضَى حتى الآن 17 عاماً في مكتب رئيس الوزراء متخطياً كلَّ أسلافه. صاحب الرقم القياسي أيضاً في قتل الفلسطينيين وقياداتهم والأمر نفسه بالنسبة إلى قياديي «حزب الله» اللبناني.

منذ سنوات طويلة وهو يحلم بنقل المعركة إلى «مسرحها الحقيقي» أي المواجهة المباشرة مع إيران. اعتبر برنامجَها النووي «خطراً وجودياً» وطرق مراراً أبواب البيت الأبيض سعياً إلى مشاركة أميركية في إطلاق إعصار ضدها. واضح أنَّ بنيامين نتنياهو نجح في التسلل إلى عقل ترمب وحساباته وانعطافاته.

مستقبل المنطقة يتوقَّف الآن على قرارات ثلاثة ملاكمين يعنيهم مستقبل صورتهم في التاريخ. اللعبة حرجة وخطرة. إذا ردَّ الملاكم الإيراني على الملاكم الأميركي مباشرة فإنَّ حرباً بهذا الحجم قد تصدع ركائز النظام نفسه. ويصعب الاعتقاد أنَّه يستطيع إطالة أمد تبادل الضربات مع الملاكم الإسرائيلي من دون مواجهة تدخل أميركي.

ذات يوم قالَ قاسم سليماني أمام حلقةٍ صغيرةٍ إنَّ الخيط الأميركي هو ما يحفظ «التوازنات الظالمة» في الشرق الأوسط، وإنَّه «لا بدَّ من قطع هذا الخيط، وهذا ممكن». قال أيضاً إنَّه إذا كانت إسرائيل حاملة طائرات أميركية فإنَّ الحاملات تغرق إذا أصيبت بثقوب عميقة وفقد سكانها ثقتهم بجيشهم وحكومتهم.

هل اتَّفق الملاكمان الإسرائيلي والأميركي على تدمير البرنامجِ النووي الإيراني وقطع الخيط الذي يربط طهران بمسارح الأذرع؟ ثلاثةٌ من كبار الملاكمين ومشاهدُ غيرُ مسبوقةٍ فمن يستطيع استعادة الشرق الأوسط الرهيب من الهاوية؟


غسان شربل
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»

قراءة المزيد

شهادة منزلية

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

تداولت المواقع شهادات امرأة عملت في منزل بنيامين نتنياهو. ومن دون معرفة لها بعلم النفس، ترسم العاملة لرئيس وزراء إسرائيل، صورة رجل مصاب بالوسواس، غير قادر على التركيز، بعيد دائماً عن أهل بيته، حتى عن زوجته الملقبة بـ«حاكمة إسرائيل».

يبدو كلام الشاهدة وكأنه مأخوذ حرفياً من مسرحية «ماكبث»، التي وضعها شكسبير ليصور حياة القاتل مع عقدة الذنب. ومن أجل الهرب من جريمته الأولى، لا بدّ من ارتكاب جرائم أخرى. هناك في وقت واحد الخوف من العقاب، وهناك الاعتقاد بأن الخلاص في الجريمة. وكلاهما بلا نهاية.

الملمون أكثر منا بأعمال عبقري الإنجليز سوف يعثرون على شخصيات كثيرة، كلما طلع الفجر عليها، أمرت بإعدام وجبة أخرى من الأطفال والرجال والنساء، ويستحسن أن يكونوا من عائلة واحدة؛ لأن في المساء سوف يصدر الأمر بقتل الأب، الذي هو، بالمناسبة، طبيب.

لا بد أن نتنياهو «الشارد الذهن» يخطر له هو أيضاً، أنه أصبح مثالاً لنماذج لا مثيل لها إلا في المسرح الشكسبيري، لا في عاديات الأيام والأحداث. ومهما كانت طبيعته، لا بد أن تمر أمامه لوهلة صور الآلاف الذين يأمر بقتلهم كل يوم، بحثاً عن نصر لم يعد معروفاً، إن كان في شمال إسرائيل، أو في شمال إيران، أو غير أي محيط أو قارة يتنقل.

المشكلة أن التحدث عن نتنياهو كحالة نفسية، تزيد الأمور خطورة وحرجاً، ليس مجرد تداول من تداولات الحرب. ليس من الممكن العثور على شاهد أكثر صدقاً في وصف ما سمته «البيت الأكثر مكروهية في العالم». وفي طريقه إلى تدمير غزة، وإيران، ولبنان، دمّر «شمشون» كل ما حوله. وما زال يهتز ويرتجف ويتوعد، معلناً أن إسرائيل أقوى من أي وقت مضى.

سوف يرى بوضوح أكثر إذا أزاح الغمامة عن عين الحصان، ويتأكد من أن اللجوء إلى العبارات التوراتية، لا يشكل، في الحقيقة، نتائج عسكرية!


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

شهادة منزلية

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

تداولت المواقع شهادات امرأة عملت في منزل بنيامين نتنياهو. ومن دون معرفة لها بعلم النفس، ترسم العاملة لرئيس وزراء إسرائيل، صورة رجل مصاب بالوسواس، غير قادر على التركيز، بعيد دائماً عن أهل بيته، حتى عن زوجته الملقبة بـ«حاكمة إسرائيل».

يبدو كلام الشاهدة وكأنه مأخوذ حرفياً من مسرحية «ماكبث»، التي وضعها شكسبير ليصور حياة القاتل مع عقدة الذنب. ومن أجل الهرب من جريمته الأولى، لا بدّ من ارتكاب جرائم أخرى. هناك في وقت واحد الخوف من العقاب، وهناك الاعتقاد بأن الخلاص في الجريمة. وكلاهما بلا نهاية.

الملمون أكثر منا بأعمال عبقري الإنجليز سوف يعثرون على شخصيات كثيرة، كلما طلع الفجر عليها، أمرت بإعدام وجبة أخرى من الأطفال والرجال والنساء، ويستحسن أن يكونوا من عائلة واحدة؛ لأن في المساء سوف يصدر الأمر بقتل الأب، الذي هو، بالمناسبة، طبيب.

لا بد أن نتنياهو «الشارد الذهن» يخطر له هو أيضاً، أنه أصبح مثالاً لنماذج لا مثيل لها إلا في المسرح الشكسبيري، لا في عاديات الأيام والأحداث. ومهما كانت طبيعته، لا بد أن تمر أمامه لوهلة صور الآلاف الذين يأمر بقتلهم كل يوم، بحثاً عن نصر لم يعد معروفاً، إن كان في شمال إسرائيل، أو في شمال إيران، أو غير أي محيط أو قارة يتنقل.

المشكلة أن التحدث عن نتنياهو كحالة نفسية، تزيد الأمور خطورة وحرجاً، ليس مجرد تداول من تداولات الحرب. ليس من الممكن العثور على شاهد أكثر صدقاً في وصف ما سمته «البيت الأكثر مكروهية في العالم». وفي طريقه إلى تدمير غزة، وإيران، ولبنان، دمّر «شمشون» كل ما حوله. وما زال يهتز ويرتجف ويتوعد، معلناً أن إسرائيل أقوى من أي وقت مضى.

سوف يرى بوضوح أكثر إذا أزاح الغمامة عن عين الحصان، ويتأكد من أن اللجوء إلى العبارات التوراتية، لا يشكل، في الحقيقة، نتائج عسكرية!


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

شهادة منزلية

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

تداولت المواقع شهادات امرأة عملت في منزل بنيامين نتنياهو. ومن دون معرفة لها بعلم النفس، ترسم العاملة لرئيس وزراء إسرائيل، صورة رجل مصاب بالوسواس، غير قادر على التركيز، بعيد دائماً عن أهل بيته، حتى عن زوجته الملقبة بـ«حاكمة إسرائيل».

يبدو كلام الشاهدة وكأنه مأخوذ حرفياً من مسرحية «ماكبث»، التي وضعها شكسبير ليصور حياة القاتل مع عقدة الذنب. ومن أجل الهرب من جريمته الأولى، لا بدّ من ارتكاب جرائم أخرى. هناك في وقت واحد الخوف من العقاب، وهناك الاعتقاد بأن الخلاص في الجريمة. وكلاهما بلا نهاية.

الملمون أكثر منا بأعمال عبقري الإنجليز سوف يعثرون على شخصيات كثيرة، كلما طلع الفجر عليها، أمرت بإعدام وجبة أخرى من الأطفال والرجال والنساء، ويستحسن أن يكونوا من عائلة واحدة؛ لأن في المساء سوف يصدر الأمر بقتل الأب، الذي هو، بالمناسبة، طبيب.

لا بد أن نتنياهو «الشارد الذهن» يخطر له هو أيضاً، أنه أصبح مثالاً لنماذج لا مثيل لها إلا في المسرح الشكسبيري، لا في عاديات الأيام والأحداث. ومهما كانت طبيعته، لا بد أن تمر أمامه لوهلة صور الآلاف الذين يأمر بقتلهم كل يوم، بحثاً عن نصر لم يعد معروفاً، إن كان في شمال إسرائيل، أو في شمال إيران، أو غير أي محيط أو قارة يتنقل.

المشكلة أن التحدث عن نتنياهو كحالة نفسية، تزيد الأمور خطورة وحرجاً، ليس مجرد تداول من تداولات الحرب. ليس من الممكن العثور على شاهد أكثر صدقاً في وصف ما سمته «البيت الأكثر مكروهية في العالم». وفي طريقه إلى تدمير غزة، وإيران، ولبنان، دمّر «شمشون» كل ما حوله. وما زال يهتز ويرتجف ويتوعد، معلناً أن إسرائيل أقوى من أي وقت مضى.

سوف يرى بوضوح أكثر إذا أزاح الغمامة عن عين الحصان، ويتأكد من أن اللجوء إلى العبارات التوراتية، لا يشكل، في الحقيقة، نتائج عسكرية!


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد