التناسل بين أعماق.. الثروة والعوز

Photo of author

By العربية الآن



التناسل بين أعماق.. الثروة والعوز

8.6 بالمائة من سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر (بيكسابي)
العوز ليس عارا وللأسف تمجيد العوز فكر متجذر ومتأصل في ثقافتنا العربية (بيكسابي)
التناسل في اللغة هو ترك الميل إلى الشيء، وهو جذر يعبر عن قلة الشيء، يُقال تناسل فلان في الدنيا أي كرس نفسها لها وتخلى عن الاهتمام بها.

ترتبط مفهوم التناسل لدينا بالعوز دائماً، أي إذا أردت أن تكون تناسلاً فعليك بالانعزال عن الناس، الصيام عن العمر واستعمال الثياب المتواضعة، وكل هذه الأمور ترتبط بالفقر.

بالمثل، يتم تأطير الفقير بالعديد من القيم الإيجابية مثل التواضع والاقتصاد، وغالبًا ما يظهر صفات الصبر ويحظى بحب الناس، وغالبًا ما يتميز بالشجاعة.

وعلى الجانب المعاكس تمامًا، يُرتبط الشخص الغني في مجتمعاتنا بالغطرسة والتعالي وعدم التعاطف مع الآخرين، وحتىالاكتساب الغير المشروع، وسلوكيات غير مشرفة وخصائص معيبة.

الدين الإسلامي اهتم بالثروة بشكل كبير؛ لأنها عمود الحياة، وأساس المجتمع، لجعل الثروة وسيلة إيجابية لخدمة البشرية بدون إفراط أو استبداد.

وهكذا تقدمنا في الرحلة الحياتية وتشكلت أفكارنا، معتقدين أن الزهد صفة للصالحين والمال مسبب للفساد في الأرواح، والقناعة كنز للمحتاجين والطمع عيب للأثرياء.

وبما أن الله يميل للمحتاجين، كما قال عمر بن حصين: قال الرسول صلى الله عليه وسلم” إن الله يحب عبده المؤمن الفقير المحتاج لرعاية الأسرة”.

لكن الإسلام هتم بالمال بشكل كبير؛ بوصفه ركيزة الحياة، وأساس المجتمع، لجعل الثروة وسيلة إيجابية لخدمة البشرية بدون إفراط أو استبداد.

كذلك وضع الله الثروة زينة للحياة في الدنيا على ما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]، ونبه القرآن إلى
من يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم من طيبات هذه الدنيا قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].

من هذه الآيات القرآنية وغيرها يتبين لنا أن الدين الإسلامي لم يحول حائلاً بين أتباعه وبين امتلاك الثروة؛ طالما أن هذه الثروة اكتسبت بشكل حلال، والهدف من اكتسابها هو الاستناد إليها لطاعة الله ومواجهة تحديات الدهر والصعوبات.

عندما نتحدث عن الفقر والثروة، لا يمكن أن نتجاهل دعاء النبي: اللهم إني أسألك الهدى، والتقى والعفاف والغنى.

وكذلك: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر.

أيتعوذ النبي الكريم من الكفر! وألصق به الفقر!، الفقر الذي ألصق لدينا بالزهد؟ ولماذا يستعيذ النبي من الفقر وقد ألصقه بشخصه الكريم، وهل كان النبي محمد فقيرا فعلا؟

إذ شاع على ألسنة الناس أن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ولد فقيرا مستضعفا، وأن المرضعات من بني سعد رفضن أخذه أولاً لتربيته وفقره، وأن حليمة السعدية لم تأخذه إلا بعد أن حزنت لعدم حصوله على طفل ترضعه، فقبلت عليه على مضض، وهذا انتشر في بعض كتب السيرة تقليداً وتكراراً، ولكنه مجرد خيال ملتبس ومروج من قبل الرواة، لأن عبد المطلب جد النبي معروف بثروته لدى بني سعد، وكان يرسل كل طفل من أبنائه إليهم، وبعضهم كان حاضراً عند ولادة رسول الله كحمزة بن عبد المطلب والعباس رضي الله عنهما، والرواية الصحيحة تقول: إنه هو من بحث عن مراضع له، فزاع مما يروجه الناس، وفي رواية ابن إسحاق: “عندما وضعته أمه -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى جده عبدالمطلب يخبره انه ولد غلام ، جاء جده ليرى المولود.. أخذه ودخل به إلى الكعبة، ووقف يدعو الله ويشكره على ما أعطاه، ثم خرج معه مع إلى امه وسلمه لها، وابحث عن مرضعات لرسول الله.

الفقر ليس عيبا، ولكن التمجيد الزائف للفقر تفكير متخصص وواصل في ثقافتنا العربية، وهذا التمجيد هو محاولة للانبراش للفقراء بدون وقوف على من جعلهم فقراء، وجعلهم يرفعون النفس قهرا.

وورث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه خادمة وخمس من الإبل، ومجموعة من الأغنام، وحصة والده في التجارة، فكيف يمكن له أن يكون فقيرا؟ وكانت أمه لا تعاني في تربيته؛ لأنه كان يتلقى الرعاية الكافية من عائلته.

وقد أشار القاضي أبو يعلى الفراء وهو يسجل ممتلكاته صلى الله عليه وسلم: أن الرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورث من أبيه عبد الله الحبشية، واسمها بركة وخمسة إبل، وجزء من اسواق الأغنام، والعبد شقران والابن نمر وهو مشهور بمشاركته في معركة بدر، وورث من أمه آمنة بنت وهب البيت الذي ولد فيه في مكة، وورث من زوجته خديجة بنت خويلد بيتها في مكة بين الصفا والمروة خلف السوق.

لذلك، لماذا نحد قو الفقر للنبي محمد؟ ولماذا دائماً يستخدم الفقر لتبرير للناس؟ هذا يتعارض تماما مع تعاليم الدين الإسلامي التي تشجع على الثراء، وتحث على السعي في كسب المال بشكل حلال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المال الصالح للعبد الصالح صحيح”.

كيف

وها أن الفقير أصغر وقاد قافلة تجارية في مكة عندما أصطحبه عمه أبو طالب في رحلة تجارة إلى الشام، رغم أنه اشترى أرض المسجد وأقام بيته عليها. كيف يكون فقيرا؟

قد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الفقر والكفر؛ لأن الفقير قد ينهكه الشعور بالضيق فينقم على قضاء الله وتضعف ثقته بالله، وتحول الفقر دون تأديته لواجباته تجاه ربه والناس. الفقر ليس عيبا، ولكن تمجيده يعبر عن فكر متجذر ومتأصل في ثقافتنا العربية.

يتميز الغني المسلم الصالح بإنفاقه على المحتاجين مثل الأيتام والأرامل والفقراء، ومساعدة طلاب العلم والداعين إلى الدين.

إن الثروة ليست شرا في حد ذاتها، وإنما يعتمد تقديرها على الاستخدام الذي يُقضي به. تحدثت السيرة النبوية عن عدد من الصحابة الأغنياء الذين كانوا معتدلين في استخدام ثرواتهم والتصدق بها ومساعدة الفقراء.

تأملوا في قصص الصحابة، فقد حققوا ثرواتٍ هائلة ولم تتسلل الرغبة في المال إلى قلوبهم. كانوا يتزنون بين حياتهم الدنيوية وما بعدها بقلوبٍ زاهدة.

كانوا يمتلكون الدنيا ولا يمتلكهم الطمع، ويعيشون بتوازن بين الحياة الدنيوية والأخروية.

ابن ماجه وثناه الألباني رووا عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مال أبي بكر لم ينفعني قط، لأن الناس يعرفون فضلي عليه، لكن ماله نفعني يوم بدر))، فبكى أبو بكر وقال: “إنّ مالي وأهلي لك يا رسول الله”.

وقد فتح عبد الرحمن بن عوف الله عليه باب الاستثمار والتصدق، وتجاوز ماله الهائل ثلاثة ملايين ومائتي ألف دينار، وكان من أبرز صحابة النبي في العهد النبوي.

سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أحدهم وكانت ثروته تُقدَّر بـ “مائتي ألف”.

“ودرهم خمسون ألف”، ومن بآثار غناه ــ رضي الله عنه هو أنه تجلى في الصحيحين بقوله: (أقبل عليّ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حج الوداع وأنا أعاني من ألمٍ شديد كادني يُميت، فسألته: يا رسولَ الله، أُخبرني عن درجة هذا الألم وأنا أملك ثروةً ولدي وريثةً واحدةً فقط، هل أتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فهل أتصدق بنِصفِه؟ قال: لا، التصدق بالثلث والثلث كثير، إذا تركت أموالك لورثتك أغنياء كان خيرًا من تركهم معيشةً يتوسلون فيها إلى الناس.

“اكتسب هؤلاء الصحابة الكرام هذه الثروات الطائلة بتواضع منابع الثراء في ذلك الزمان، ورغم ذلك لم تُدرج الثراء إلى قلوبهم، بل كانت في أيديهم، فحُكموا على الدنيا بقلوب متحابة وقاموا بتحقيق توازن دقيق بين الحياة الدنيا والآخرة”، “الزهد ليس في عدم امتلاك شيء، بل الزهد هو عدم ملك شيء لك”.

الآراء المندرجة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن موقف قناة الجزيرة الرسمي.



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.