“الصراع أوله الكلام”.. اللغة السودانية في ظلامية خطاب الجماهير

Photo of author

By العربية الآن



“الصراع أوله الكلام”.. اللغة السودانية في ظلامية خطاب الجماهير

RC2G17AK8OS4 1715539295
منظر لشارع في مدينة أم درمان تضرر خلال الصراع السوداني التي استمرت لأكثر من عام في السودان (رويترز)

<

div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>عُقِدت في الأيام السابقة اجتماعات مكثفة للإعلاميين في السودان بهدف إيجاد أرضية مشتركة تساعد على تجنب تداعيات الصراع الذي عصف بالبلاد، في عدة جوانب، إذ قديمًا كان أحد الحكماء يعلق بالقول “الصراع أوله الكلام”.

سبقه في هذا القول الفيلسوف الألماني كلاوتسفيتس بزمن يزيد عن 8 قرون، الذي جعل الصراع فعلا سياسيا بوسائل غير مباشرة، حيث تكون اللغة التي تعتمد عليها أقوى من أثر الأسلحة والسيوف في عقول وقلوب الناس، موجهة إياهم نحو الهلاك.

كان الفكر الأوروبي في نهاية العصور الوسطى أدق، إذ ربط العمل القتالي بالأفعال السياسية، معتبرًا أن الصراع، بجميع حالاته، ينبع من هدف سياسي يتحقق أو يعبر عنه.

بدوره، ربط نصر بن سيار كلامه بالتعبير اللفظي الذي قد يكون محرضًا في ذلك الوقت، وتطور بعد ذلك ليصبح مصطلح “علم الكلام” قضية حرب فكرية، يقاتل من خلالها المعارضون وأتباع التيارات الدينية لتحريفه “عن بعض مفاهيمه السياسية”.

ساروا بهذا المنهج نحو ساحة الصراعات الفكرية والصراعات بين الطبقات الحاكمة، لتجنب الفعل العنيف الذي يدفع ثمنه الجماهير بكثرة، ليظهر في بادئ الأمر في ساحةأثا الزمان الراهن، مستعملاً ان أصطلح “اللغواء” بتدقيقِ تقديم الفكر. وأكد نعوم تشومسكي هذا الجانب.

إن العناية بالبلاغة في زمن الصراع لا تعدُّ تجاوزاً، بل هي واجبٌ ضَروريٌّ يتطلب تنقية البيان من العيوب الاجتماعية، بهدف صده الانقسامات وغلق الثغور. وهذا يمثل تحليلاً لمفردات الخصم وفحصها واستنباط المراد منها، والذي يجعل الفاعل في الميدان فضيلًا ومتقدمًا من منظور الفكر والحضارة.

هذا بالإضافة إلى إدراج الخصم إلى ساحة يختارها بعناية لاستخدام اللغة كأداة حضارية لتحقيق النصر، ليعيدنا إلى النقطة ذاتها: ألا وهي أن الكلمة هي التي تهيمن على العقل البشري والإنسان هو الذي يبتدع الصراعات، والتي بدورها تمثل فعلاً سياسيًا باستخدام وسائل التعبير العدائية.

“الشعر ديوان العرب”

من المعروف أن اللغة هي المفتاح لفهم أية قضية يتم طرحها أو مواجهتها، وتُميّز كل شعب عن الآخر وعن سلفه “في زمانه وموقعه” بمستوى تفاعله مع اللغة والثقافة التي تسود لديه.

ويكون لهذا تأثير واضح على ما ينقشه من أثر لنفسه في المكان عبر الزمن، لتلتقط الكتب السماوية (التوراة والإنجيل والقرآن) أو الشعر الجاهلي أو في عصر الإسلام جميعًا أصول “لُغوية” سجلت تاريخ الشعوب والأمم وأحداثها بلغة أصبحت سجلاً توثيقيًا لهم “الشعر ديوان العرب”.

“الشعر ديوان العرب”، وهذا يعني أنه الدفتر الذي يُعكس حياتهم ومعاشهم ومستوى تطوُّرهم في تلك الحقبة، فقد أحتفظ بملاحم الإلياذة والأوديسا قصص هوميروس وهيرلكيز وغيرهم، لتتجسد حتى هذا الوقت لتَحكي عن حالة الناس في الأدب الإغريقي.

وإن الشعوب قد ماتت في حروبها، ولكن ظلت آثارها الثقافية واللغوية التي أنتجها أدب تلك الحقبة لتبقى نموذجًا للإيضاح لآلاف السنين يتلاونها الأجيال بعد الأجيال، وحتى يُتأملوها في لغات أُخرى.

ونرى أقوالهم (حرب لا ناقلة لنا فيها ولا جمل) أو (كعب أخيل) وغيرها من التعبيرات اللفظية التي بقيت تاريخية لمدة طويلة كعبرة، بل يصبح البعض يزيد على قوة الكلمة بالقول أن المتنبي نفسه شاعر العربية حاملًا بنفسه نهايته بسبب بيت شعر قاله وكلمة قالها بذلت حياته كثمن لها.

نخب عاجزة

وبناءً على ذلك، فإن الدعوة إلى الاهتمام بلغة الخطاب المسيطر في السودان في الوقت الحاضر يعد تحذيرًا لجميع الطبقات المثقفة من ضرورة وجود رقيب لغوي شعبي (أهلي طوعي) يسعى لتصحيح فهم كل كلمة للناس وتنقية للجماهير من شوائب اللغة في خطابهم.

هذا يأتي بعد مشاهدة فشل الاتصالات والنقابات التي خضعت لتوجهات سياسية وأيدولوجية وتركت مهمتها التربوية، وبات هناك حاجة ماسة لتدارك ما فاتهم من حماية اللغة من التلوث الفكري في النماذج التي تُقدَّم أحيانا بكلمات مشوهة ومصطلحات غير لائقة، أصبحت شائعة في وسائل الإعلام الرسمية والشعبية بعيدة عن بيان أهل السودان ولهجتهم الأصيلة.

هذه اللغة التي لها إسهام كبير في البيئة التي تحيط بها في الإقليمين العربي والأفريقي منذ زمن التابعي يزيد بن أبي حبيب النوبي الذي أصبح مفتي دمشق في القرن الثاني الهجري، إلى عبد الله الطيب البروفيسور الذي يفتخر به أهل السودان بمساهمته العلمية الكبيرة في تأسيس كليات ومعاهد لغة عربية في حزام الساحل والصحراء والذي نال شهرة واسعة.

ومع ذلك، فإن النخب الحالية وقفت عاجزة عن خلق رموز لغوية تتجديد إنتاج علماء بارعين من أهل السودان يبهرون العالم. وأكثر ما يؤلم ويُحزن في هذه النخب الحالية هو انعدام اهتمامها بضرورة العودة إلى الجذور والأصول في لغتها، ففسدت مجال الإعلام بين الجماعة بين العامة.

وتضمن ذلك استخدام ألفاظ ومصطلحات لا تتماشى مع بيئتهم ولا ببديعهم ولا بلغتهم، وهو تأثير مباشر لسموم الأفكار وانحدار مستوى إبداعها، وإذ قد حذر الدكتور منصور خالد في كتابه الجنوب السودان من الصورة الزائفة والقمع التاريخي “أن تلوث الأذهان والأفكار هو أسوأ ما يحدث للإنسان مقارنة بتلوث الجسد والأجساد”.

لذلك، تبقى الحرب الحالية في السودان تتمحور حول اللغة والحروف والمصطلحات كأداة قبل الحرب بالأسلحة والبارود.

دور الإعلام

لا يجب أبدًا التهاون بدور اللغة في الصراعات، فالتجارب التاريخية منذ عصر المعلقات في الجاهلية وحسان بن ثابت في بدايات الإسلام تُظهر أهمية دور الإعلام في تحفيز الجهود العسكرية. وتطور الأمر في العصر الحديث إلى استخدام اللغة كوسيلة لتجنيد جيش.

ذكر المؤرخ البريطاني المتخصص في التاريخ العسكري ماكس هيستينغ أن وينستون تشرشل قام بجعل اللغة الإنجليزية وحدة قتالية لها تأثير كبير في تغيير مجرى الحروب.

ويرى الباحث المخضرم أن الدور الأساسي لتلك اللغة كان يعدُّ الدعم الفعّال لمنظومة معينة تساعد على بناء صفوف المقاتلين.

تقف عند نقطة تشديد العزائم لشعب إنجلترا فقط، بل تتعدى لتصبح جسرًا لبناء تحالف دولي مبني على القيم الثقافية المشتركة (ركيزته الأنجلوساكسونية لدول: المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا) مع توابعها الاستعمارية في إمبراطوريتها التي لم تغب عنها الشمس.

يشعر السودانيون بالدهشة عند استخدام شخص ما، على مستوى رأس الدولة، لغة بذيئة تتضمن مفردات مثل “سانات وراستات.. الواقفين قنا..” في خطاب مُسجل (أي مقروء وليس منطوق)!!

يشعرون أنها محاولة لإهانة كرامة لغتهم بتصرّف متعمد ومدروس في معاني ومضامين هذه الكلمات التي ينطق بها لقلوب جماعة “لا تمثل طيب الفكر أو على مستوى النخبة” التي تُطالب بقيادة وتوجيه مجتمعها وشعبها.

سدنة وفلول

عند مقارنة بين الفترات السودانية أو الانتقالية السابقة، ستجد تباينًا كبيرًا، إذ يروي الواقع بأسى عن تراجع شديد أصاب عقول النخبة السياسية السودانية وعجزها عن الإبداع اللغوي.

لنأخذ على سبيل المثال فترة بعد انتفاضة أبريل/نيسان 1985 وسقوط حكم النميري حيث اخترقت النخبة السياسية آنذاك مصطلح “سدنة” لمن كان يدعم نظام الحكم المطيحن، خاصة خلال “فترة الإمامة النميرية” عندما اعتمد بعض النخب على نميريقية القوانين الإسلامية. وعندما شُبه النظام النميري بالكعبة الحرمية للسلطة.

أطلقت النخبة المؤيدة لتلك الحقبة أو المدافعة عنها تسمية “سدنة” للبيت الحرام، مشبهة إياهم ببني شيبة وعثمان بن مظعون. وعلى الرغم من المهاجمة التي تعرضوا لها أنصار النظام آنذاك، إلا أننا نجد في ذلك براعة لغوية وعودة إلى الأصل. وكانت خطابات الزعماء تُدرَّس في المناهج التعليمية الوطنية كمثال على قوة تعبيرها ودورها في البناء الوطني.

وفي الفترة الحالية للانتقال (2019)، استخدم خصوم أنصار نظام البشير بعد سقوط النظام مصطلح “فلول” للتعبير عن خصومهم، تبعوا كبذرة استملت من التقاليد السياسية المصرية بعد عزوف حسني مبارك، دون أي تفكير في السياق التاريخي والوطني الذي اشتهرت فيه المصطلحات.

فالنخبة المصرية التي أطاحت بمبارك، أرادت التأكيد أن الكتلة الوطنية من الجيش المصري معها باستثناء “فلول” وجيوب منتمية لهم، أو “أجزاء من النظام القديم”، وهذا واقع يختلف تمامًا عن ما يحدث في السودان. نخبة الثورة ضد البشير سرقت المصطلح دون فهم للواقع الاجتماعي والسياسي.

العلم يُبين لنا أن “الفلول” هي بقايا الجيوش المهزومة لغويًا، أو “النثارات الحديدية المتآكلة التي كانت جزءًا من السيف”. استخدام المصطلح بهذه الطريقة في السودان يكشف عن مستوى الجهل الذي يحيط بالكلمة من الناحية التاريخية، إذ يظهر أنه ارتبط بالثناء في الشعر الذي وصف باسم أمير الشعراء أحمد شوقي تقديره لأتاتورك بعد قيادته لمعركة التحرير واستعادة الهوية التركية لبلادها:

من فل جيش ومن أنقاض مملكة …. ومن بقايا شعب جئت بالعجب

هنا يوضح شوقي لنا أن “الفل” كلمة تشير إلى الأقلام التي صنعت تاريخًا ومجدًا. ولم يكن شوقي الوحيد الذي قام بهذا الفعل، فقال الشاعر الذبياني مُدّحًا لغساسنة بعد انتصارهم على المناذرة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم …. بها فلول من تنتسب للكتائب

وعلّق عبد الله الطيب: تأكيد بالمديح بما يشبه الذم هو من جوانب الحرفية الجيدة في الشعر.

فأولئك الذين يرددون “عشان أم قرون أركب الحديد بكسي..” ربما يعجبهم الإيقاع واللحن، ولكنهم لا يعلمون أنهم يروّجون للخراب في العقول والبيوت والمدن والمجتمعات لأولئك الذين ينقادون خلف هذه النداءات.

من خانهُ خُنَّا ومن خان رسوله فليس له فرار سوى خيبة الأمل.. ومن كان له ثقة في الدفاع عن بوكسي أو في رضا أم قرون فليست مفاتيح بناء رسالة أو نقل حضاري يُقدِمه لغيره، فهل يمكن مقارنته بمن يحارب دون اعتبار لثرواته أو عروضه؟!

لذا ينبغي على النخب الثقافية في السودان الانتفاض بمبادرة مدنية طوعية لتكون درعًا ومصفى يُستخدم لتنقية وتصفية اللغة التي تلوث بيئة الوطن الثقافية والاجتماعية. ويُشجعون على

القتل والتدمير والتخريب وتشويش على الجمهور وتخريب مجتمعهم ووطنهم.

ترك الأمر بهذا الشكل من قبل الفكراء هو جريمة تاريخية لا تُحتمل، لأنه يعني خلق لغة تحرض الناس على القتال لإرضاء غيرة أو مصالح زمانية، فكان أهل السودان يومًا ما يدعون غضبًا لتقود الركب ويهتفون “حياة الوطن” فهل هما سواء!


*باحث وناشط إعلامي سوداني

المراجع:

  1. كارل فون كلاوتسفيتس، عن الحرب.
  2. أوراق الإسلاميين، للمفكر أبو الحسن الأشعري.
  3. العبارات التي تنبع من أدبيات الصراع تكون دائمًا ذات أثر عالٍ في أوقات الحروب وبعد قرون من ذلك، واستخدمنا مثالين فقط “صراع لا ناقة فيه وجمل” التي قالها الحارث بن عباد البكري خلال حرب البسوس، أو قصة كعب أخيل المأخوذة من الأدب اليوناني.
  4. الذهبي، أعلام النبلاء، المجلد 4، يزيد بن أبي حبيب، الجزء السادس.
  5. منصور خالد، جنوب السودان في الخيال العربي: الصورة الزائفة والقمع التاريخي، لندن، دار التراث، 2000.
  6. ماكس هاستنغز، كل الجحيم ينفلت: العالم في الحرب 1939-1945، كولينز، 2011.
  7. خطاب تلفزيوني لرئيس المجلس العسكري الفريق عبد الفتاح البرهان قبل فض اعتصام المدنيين أمام مقر الجيش عام 2019.
  8. محمد أبو القاسم حاج حمد: السودان بين المأزق التاريخي وآفاق المستقبل.
  9. إشارة إلى حديث نبوي شريف، عن الأربعين النووية.
المصدر: الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.