مستقبل القوة الناعمة في العالم العربي: تحديات وآفاق جديدة

Photo of author

By العربية الآن


حاضر القوة الناعمة ومستقبلها في العالم العربي

Workers are pictured next to the Expo 2020 logo ahead of the opening ceremony in Dubai, United Arab Emirates, September 30, 2021. REUTERS/Rula Rouhana
الإمارات نظمت معرض “إكسبو 2020” بشكل مميز ولافت (رويترز)

يقول الأدب الألماني الكبير “يوهان فولفغانغ فون غوته”: ليس هناك عقاب أقسى على المرء من العيش في الجنة بمفرده، فالمؤكد أن الوجود من دون الآخرين يبدو ضربًا من المستحيل.

عبارة يمكن تلخيصها من خلال المثل الشعبي العربي الشهير: “الجنة بدون ناس ما بتنداس”، فالإنسان منذ أول وجوده، وقبل اختراع الكتابة وبداية الحضارة البشرية، قبل نحو ستة آلاف عام، وهو يميل إلى الاقتراب من أخيه الإنسان؛ عاطفيًّا ومصلحيًّا على حد سواء، مكونًا للجماعات والمناطق، حيث يدير الناس شؤون حياتهم معتمدين بعضهم على بعض.

كان الإنسان وما يزال وسيظل “حيوانًا اجتماعيًّا”، وفق تعبير بعضهم، فهو ذو “طابع مدني” كما يرى “ابن خلدون”، المتوفى في القاهرة عام 1406.

كلما ازدادت قدرة الدولة على الجذب أو الإقناع، تحولت قيمها إلى مراد ومبتغى للشعوب الأخرى، فكم من شعب يطمح أن يرى بلده شبيهًا بأميركا أو فرنسا أو اليابان

هذا التمهيد يوصلنا إلى الحديث عن القوة الناعمة، وهو مفهوم ظهر على يد أستاذ العلاقات الدولية الأميركي الشهير “جوزيف ناي” عام 1990، وهو مفهوم يعبر عن قدرة دولة ما على جعل الدول الأخرى تنجذب لنظامها: الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي طوعًا لا كرهًا، من خلال التأثير في الجماعات والأفراد، عن طريق الآداب والفنون، والمؤسسات الثقافية، والسمعة الحسنة للدولة والمجتمع، ومن خلال التعاطي الإيجابي مع المؤسسات الدولية.. هي باختصار -كما قال “ناي” نفسه ذات مرة- “أن تجعل الآخرين يريدون ما تريده أنت، متعاونين قانعين بلا إكراه أو إغراء”.

نرى بعض الدول العربية تحقق مراتب جيدة في التقييمات الصادرة عن مؤسسة كبيرة، مثل “براند فاينانس”، التي يقع مقرها الرئيسي في لندن؛ ففي عام 2023، حققت الإمارات مركزًا بين العشر الأوائل على مستوى العالم، تلتها السعودية في المرتبة الثانية عربيًّا والتاسعة عشرة عالميًّا، تلتها -عربيًّا- قطر، فالكويت، فمصر، فعمان، فالبحرين، فالأردن، فالمغرب، فتونس، فالجزائر، فلبنان، فالسودان، فالعراق، أما باقي الدول العربية، فليست مدرجة أصلًا ضمن الـ 121 بلدًا التي شملها التصنيف. ومن الجدير بالذكر أن هذا التصنيف صدر في الأشهر الأولى من عام 2023، أي قبل اندلاع الانقسام الدامي والمؤسف في السودان.

كلما ازدادت قدرة الدولة على الجذب أو الإقناع، تحولت قيمها إلى مراد ومبتغى للشعوب الأخرى، فكم من شعب يطمح أن يرى بلده شبيهًا بأميركا أو فرنسا أو اليابان.

نعود إلى الإمارات كنموذج عربي صاعد وواعد في هذا المجال.. نرى أنها قد احتلت هذا الموقع المتقدم عام 2023؛ لكونها نظمت معرض “إكسبو 2020” بشكل مميز ولافت، وقد أقيم في الفترة ما بين أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ومارس/ آذار 2022، ناهيك عن كونها من كبرى الدول المانحة للمساعدات الخارجية، خاصة إذا ما قسنا ذلك بحجم اقتصادها، بالإضافة إلى كونها من أولى الدول التي انفتحت على وباء كورونا، وتعاملت معه بموضوعية وحزم من خلال الإسراع بحملات التطعيم.

وكذلك قطر، عندما كانت أول دولة عربية وشرق أوسطية تنظم بطولة مونديال 2022 بشكل ممتاز، وتعتبر بطولة كأس العالم لكرة القدم من أهم ثلاثة أحداث رياضية في العالم، إلى جانب الألعاب الأولمبية وبطولة أمم أوروبا.

إن ما يترجمه العرب مجتمعين يعادل عُشر ما تترجمه البرازيل، مع العلم أن الأمة العربية تفوق البرازيل بضعف عدد السكان وأكثر قليلًا!

في عالم اليوم، لا يمكنك بناء سمعة إيجابية في ظل الأصوليات، والتحزبات، والانغلاق، والطائفية، والقبلية، والمناطقية، والسير وراء من يلعبون على الغرائز، ويقتاتون على الخطاب الشعبوي لا النخبوي، والخطاب الديماغوجي لا الإصلاحي.

إن “الدبلوماسية الثقافية” من أهم أدوات القوة الناعمة، والتي تتمثل في تبادل اللغات والأفكار والعادات بين شعوب العالم، إضافة إلى إنشاء المؤسسات الثقافية في الدول الأخرى، مثل: “معهد العالم العربي في باريس”، الذي تأسس عام 1987، وعصب هذا كله حركة الترجمة وجودتها ونشاطها وفاعليتها، وحال الترجمة في بلداننا العربية – كما يقال في الدارجة العربية – لا يسرُّ عدوًّا ولا صديقًا.

يكفي أن نقول: إن ما يترجمه العرب مجتمعين يعادل عُشر ما تترجمه البرازيل، مع العلم أن الأمة العربية تفوق البرازيل بضعف عدد السكان وأكثر قليلًا!. ولا هنا لا ننسى أننا نتحدث عن البرازيل، تلك الدولة اللاتينية التي كانت في الماضي القريب قابعة في غياهب البؤس والضياع. ومن المؤسف أيضًا التقصير الحكومي اللافت في دعم الطباعة، إذ تقول أحدث الإحصائيات إن دور النشر العربية الخاصة تستحوذ على ما نسبته 74% من مجموع الكتب المترجمة في العالم العربي.

ولا أدل على أهمية الترجمة من قول عميد الأدب العربي “طه حسين” في كتابه الذي ضجت به الآفاق منذ أن صدر عام 1938 وحتى يومنا هذا، وهو كتاب “مستقبل الثقافة في مصر”: “في حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزي، كما يصيبنا كثير من الجهل، وما يستتبعه الجهل من شر، ولا بد من إصلاحه إن كنا نريد أن ننصح لأنفسنا ونعيش عيشة الأمم الراقية، وإن كنا نريد أن ننصح للعلم نفسه ونشارك في ترقيته وتنميته، وإن كنا نريد أن ننصح للشعب فنخرجه من الجهل إلى المعرفة، ومن الخمول والجمود إلى النشاط والإنتاج. ومظهر هذا التقصير المخزي إهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية، فما أكثر الآثار العلمية والفنية والأدبية التي تنعم بها الإنسانية الراقية! وما أشد جهلنا بهذه الآثار وغفلتنا عنها!”.

علينا كعرب أن نبني القوتين معًا، متماشين ومتفاعلين مع طبيعة النظام العالمي وتعقيداته، فبعد أن فشلنا ببناء قوة خشنة في القرنين: الـ19 والـ20، علينا في هذا القرن بناء قاعدة صناعية تمنحنا القوة اللازمة متى قررنا تغيير عقيدتنا العسكرية

ختامًا، علّمَنا هذا العالَم المعقد المتشعب أنه لا فائدة للقوة الناعمة إلا في ظل وجود قوة خشنة تحميها.. يكفينا أن ننظر إلى السياق التاريخي الذي ظهر فيه مفهوم القوة الناعمة، لقد ظهر في مطلع التسعينيات، عندما كانت الحرب الباردة تلفظ أنفاسها الأخيرة معلنة نصرًا مؤزرًا لأميركا وحلفائها.

فما من مظهر تقدمي عرفه العالم إلا سبقه موت وعنف وحمام دم واستخدام للغة القوة، فما تخلت أوروبا عن نظام “الأقنان” إلا بعد الطاعون الأسود، وما حدث “صلح فستفاليا” الشهير عام 1648 إلا بعد حرب الثلاثين عامًا الطائفية الدامية، عندها قاموا بأول نقلة نوعية في تاريخ العلاقات الدولية، وأبعدوا المؤسسة الدينية عن مركز صنع القرار، وما كان مؤتمر فيينا 1814-1815 إلا بعد الحروب النابليونية، وما كانت عصبة الأمم إلا بعد الحرب العالمية الأولى، وما كانت الأمم المتحدة بكل مؤسساتها ونشاطاتها والقيم التي تنادي بها إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

إذًا، علينا كعرب أن نبني القوتين معًا، متماشين ومتفاعلين مع طبيعة النظام العالمي وتعقيداته، فبعد أن فشلنا ببناء قوة خشنة في القرنين: الـ19 و الـ20، علينا في هذا القرن بناء قاعدة صناعية تمنحنا القوة اللازمة متى قررنا تغيير عقيدتنا العسكرية، كما فعلت كوريا الجنوبية مثلًا، وبالتزامن مع ذلك نسعى لبناء قوتنا الناعمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.